هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

طقوسيات لبنانية للدخول إلى “الأهرام”

طقوسيات لبنانية للدخول إلى “الأهرام”
هنري زغيب
(واشنطن-1991)

أنا في “الأهرام” !
كيف يُمكنني- ولبنانُ في قلبي وفي قلمي- أن أقف عند واحد من عطاءات لبنان في الخارج، ولا تتداعى إلى ذاكرتي أسماء أسلاف لي لبنانيين كانوا لـ”الأهرام” مؤسسين وأركاناً وأعمدة، أو كانت لهم في مصر “الأهرام” بصمات لبنانية انطبعت كما على كل هرمٍ بصَماتُ التاريخ؟
أنا في “الأهرام”، فصفحة بهية تنفتح لي من الأدب العربي الحديث خطّها قبلي في “الأهرام”، قبل قرن وربع القرن، لبنانيون مباركون ضاقت بهم فسحات الحرية في لبنان (الواقع، أيامها، تحت العَثْمَنَة) فهجَّ بعضهم إلى مصر- فيما هجّ البعض الآخر إلى الأميركَتين الشمالية والجنوبية- يَنشُدون منابر لحرية الكلمة والتفكير وجرأة القول، تَخلُّصاً من “الديمقراطية” العثمانية.
وتكوكبوا في مصر، شلّةً مباركة: من سليم وبشارة تقلا ابنَي كفرشيما اللذين أسسا “الأهرام” (1876) شامخة على صورة الأرز فجعلاها منبر مصر فالعالم العربي حتّى باتت مصر تتخلّى عن كثير غواليها، ولا تتخلّى عن “الأهرام”، مروراً بالذين كانت لهم في “الأهرام” مسؤوليات وفسحات أقلام: من أنطون الجميّل ابن بكفيا (تركها لاحقاً لينشئ “الزهور”)، إلى داود بركات (ابن يحشوش) محرراً فيها فرئيس تحرير، إلى حبيب جاماتي (ابن زوق مكايل) كبير محررين، إلى نسيب وهيبة الخازن (ابن عشقوت) كاتب افتتاحيات…، وانتهاءً بأقلام لبنانية عديدة كان لها في “الأهرام” منفذٌ إلى قولٍ لم يكن ممكناً بثُّه عهدذاك في لبنان، وأبرزهم الياس أبو شبكة الذي كتَبَ غير مرة في مذكراته الشخصية أنه أرسل إلى “الأهرام” ما لم يمكنه أن يكتبه في صحافة بيروت (“… فالحقائق التي لا أجرؤ أن أقولها في هذه البلاد، أقولها في مصر” (من يوميّته في 3 شباط 1931).
ولا أقول “الأهرام” إلاّ وأقول معها مصر “الأهرام”، مصر هاتيك الأيام حين كانت تستقبل من لبنان مَن ذهبوا إليها فأسَّسوا وبرعوا من دون أن يتخلّوا عن ولائهم للبنان ولا عن وفائهم لمصر. من جرجي زيدان و”الهلال” (1892)، إلى يعقوب صرُّوف وفارس نمر و”المقطم” (1889) بعد “المقتطف” (1876)، إلى خليل مطران الذي جمع الولاء إلى الوفاء فبات بهما “شاعر القطرين”، إلى مي زيادة التي جمعت في صالونها أعلام مصر ولبنان.
ولم تكن مصرُ هاتيك الأيام مرنًى فقط لأسلاف لنا ارتحلوا إليها، بل أيضاً لأولئك الذين ارتحلوا من لبنان إلى أميركا الشمالية وبقيت لهم في مصر وَشائج:
هذا إيليا أبو ماضي يُصدر ديوانه الأول “تذكار الصبا” عام 1912 في الاسكندرية، قبل ارتحاله إلى سنسناتي (أوهايو) فاستقراره في بروكْلِن (نيويورك).
وهذا ميخائيل نعيمه يُصدر “الغربال” في القاهرة (المطبعة العصرية- 1923)، وبه بدأ حياته ناقداً رواية “الأجنحة المتكسّرة” لجبران في مقاله الأول “فجر الأمل بعد ليل اليأس” (في مجلة “الفنون”- نيويورك- المجلّد الأول- نيسان/كانون الأول 1913- ص 50 إلى 70).
وهوذا جبران نفسه يولد في لبنان ويستوطن أميركا وتكون له امتدادات لبنانية إلى مصر، فتنقل له “الهلال” مقالاته الأولى في “مرآة الغرب” النيويوركية ثم يكتب لها مقالاً سنوياً (من 1920 إلى 1924) ثم تتوالى مقالاته فيها (المجلّدات 19، 20، 24، 28، 29، 30، 31، 32، 33، 34، 40، 41، 42). ويطلب إليه صديقه اللبناني في القاهرة سليم سركيس أن يشارك في احتفاء الجامعة المصرية في القاهرة بالشاعر اللبناني خليل مطران (18 نيسان 1913)، فيكتب جبران مقال “الشاعر البعلبكي” وتُلْقِيه عنه بالنيابة مي زيادة التي كانت علاقتُه بها ابتدأت مراسَلَةً يوم كتبَتْ إليه رسالتها الأولى في 19 آذار 1913 تخبره عن صالونها الأدبي في القاهرة وتتمنّاه بين الحضور.
وفي مصر صدر آخر كتبه العربية “العواصف” سنة 1920 عن منشورات “الهلال”، وبعده كتابهُ “البدائع والطرائف” وهو مختارات من كتاباته العربية الأولى صدرت لدى “مكتبة يوسف بستاني” 1923). وفي مصر صدرت الطبعات العربية لمؤلفاته الإنكليزية، كما ترجمها صديقُه الأرشمندريت أنطونيوس بشير: “المجنون” (“الهلال” 1924)، “السابق” (مكتبة يوسف بستاني 1925)، “النبي” (مكتبة بستاني 1926)، “رمل وزبد” (مكتبة بستاني 1927)، “كلمات جبران” (مكتبة بستاني 1927). وصدرت بعد وفاته ترجمة “يسوع ابن الإنسان” (مطبعة الياس الحديثة 1932)، و”آلهة الأرض” (مطبعة الياس الحديثة 1932).
***
تواريخ تتداعى إلى ذاكرتي، وأسماء وذكريات وأحداث، وأنا أَبري قلمي على جذع “الأهرام”، فأتهيَّبُ مسؤولية أن أكون على حجم مَن سَبَقَني من أسلافي اللبنانيين فيها، وأتهيأ لأكمل الرسالة على أقدس ما تكون متابعة الرسالات.
وكما حفز أسلافي للكتابة في “الأهرام”، قبل قرن وما دون، طموحُهُم إلى حريةِ أن يَصرخوا لبنانيَّتَهم على مداها، كذلك دأْبي أنا للكتابة في “الأهرام” (وفي أي منبر يندهني إليه) أن أَجْهَر بلبنانيَّتي الحضارية والثقافية والإبداعية في نهايات هذا العصر الذي يشهد ذوبان الهويات عمداً أو جهلاً أو إهمالاً، وتذويبها من نهر التطوُّر المتحرّك إلى مستنقعٍ آسِن من التحنيط القومي أو الأممي أو العنصري أو الطائفي.
إن العصر اليوم تخطّى جميع تلك التحدُّدات والحُدود الافتراضية، وجعل العالم كلَّه قريةً كبيرةً، والناسَ مواطنين عالميين لا تَمَايُزَ لأحدهم عن الآخر إلاّ بمقدار خصوصيَّته الأصلية التي انبثق منها، وتلك الأصلية التي يعود إليها.
وأنا أنضمُّ بقلمي إلى النهر العالَميّ الكبير من دون أن أفقد خصوصية النبع الذي جئتُ منه: لبنان.
فهل تتسع “الأهرام” لصرختي اللبنانية كما اتَّسعَت قبلاً لأسلافي اللبنانيين ذوي صرخات الحرية في لبنان؟
وهل يتمدَّد صوتي من أسفل تمثال الحرية في نيويورك إلى قمة الهرم في القاهرة، فيتخطَّر قلمي على جَلال القمّتين متوَّجاً بغصن أرز من لبنان؟
أنا في “الأهرام” !
ألا اجْهَر يا قلمي بِـما أنتَ عليه، ولا مُحاباة.
هكذا تَحترم الآخرين، وبِهذا الـ”ما أنت عليه” يحترمك الآخرون.
فاجْهَر، وأنتَ في”الأهرام”، بانفتاحِك اللبناني على الشمولية من دون التخلّي عن الخصوصية.
الانفتاحُ حضارةٌ ومُجاراةُ عصر، والتقَوْقُعُ تَزَمُّت وأَسَن.
وما هكذا أنت.
ولا هكذا لبنان.

—————————–
صدرت في جريدة “الأهرام” 1991