هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

مُقدّمة أم نوستالجيا؟

مقدّمة أم نوستالجيا؟

بيني وبين طفولتي، حكاياتٌ لا تنتهي.
أعودُ إليها بغصّة الحنين، فتعبُر خيالاتها أمامي، وتُعيدني إلى هاتيك الأيام.
ألله… هاتيك الأيام!
لا أذكُر أنني قضيتُ السنوات الأولى من طفولتي، في البيت، أكثر مما عند ستي في الضيعة. ولا أذكر اليوم من طفولتي، إلاّ عنوانَين: ستي والضيعة.
***
أيّامَها، وكنتُ بِكر والديَّ وبكر عائلتيهما، نعمتُ بالهناءة كلّها… لم تكن فرحةٌ عندي تعادل ذهابي إلى الضيعة، حيث تأخذُني ستي بين ذراعيها، وتشتلني شمّاً وضَماً وقبلات حنان.
كان بيتها من غرفة واحدة كبيرة، يتوسّطها عمودٌ ضخم، رأسه قاعدة للأوصال التي أتته من أربع جهات السقف. خلف هذه الغرفة، قبو طويل كانت ستي تسمّيه “المدّ”، وتخزّن في خوابيه ودكاكيجه مونة الزيت والزيتون وما إليهما. ومن الجهة الخلفية، سطيحة صغيرة مدّت عليها بلاطة لجلي الصحون والطبخ. أما المدخل، فباحة وسيعة، في زاويتها بُرْكَة كبيرة اكتشفتُ فيها القمر للمرة الأولى.
كانت نوافذ بيت ستّي (والأصح: غرفتُها) عريضة. فكنتُ، طالما أنا عندها، آتي بصحنٍ كبير، أضعُه في حضني جاعلاً إيّاه مقْوَداً، فأجلس في عرض الشباك، وأروح أتخيَّلني أقودُ سيارة، مقلّداً السائقين الكانوا يقلّوننا إلى الضيعة: كيف يلفّون الأكواع، وكيف يعالجون الطريق، وكيف- عند الخطر المفاجئ- يضغطون على الفرامل. وكم مرة ضغطتُ مثلهم على فرامل الشباك، فانكسر زجاجه.
***
كان لِجدّي دكّانٌ في الساحة. ولم تكن هذه في حاجة إلى تعريف، كونها الوحيدة في الضيعة. فإذا قال جدي لستي: “أنا رايح ع الساحَه” فهمَت أنه ذاهب إلى الدكان. وغالباً ما كان يصطحبني معه، فأناول الزبائن أغراضهم، أو ألبَس وجهاً جِدّياً فأقبض منهم النقود، وأعطيها لجدّي باعتزاز الموظّف الدؤوب النشيط. وغالباً ما كنت أصل الساحة، لأرى جدي- أيام الصيف- واضعاً كرسيّه خارجاً، على الطريق العام، حولَه مجموعة من رجال الضيعة، وهو يقرأ عليهم، في جريدة، أخبار الوطن والعالم، فيندهشون أو يصفّرون أو ينفعلون تعجباً من أسماء كبيرة يلفظها جدّي بصوت جهوري: ديغول، التشرشل، النَوِرْك. وبعدها بسنواتٍ قليلة، صار جدي يوكل إليّ أمر القراءة، فأتلو على “الجماهير” حول جدّي أخباراً سياسية بلهجة خطابية منبرية، تجعل السامعين ينسُون ما في الجريدة، ويَخْلُصُون إلى أنْ “يخزي العين، يا ميلاد، شو هالصبي الفلتِه”.
وعلى ذكْر “الصبي الفلتِه”، كنتُ أتعمَّد قراءة الرسائل يوم الأحد، كي أخرج فور انتهاء القداس أَتَبَخْتَر في ساحة الكنيسة، وأنتشي من الذين يدلون عليّ بإعجاب: “هيدا ابن بنتو لميلاد، اسمالله عليه شو شاطر”. وأروحُ، يومها، أتعمّد الذهاب إلى الفرن والساحة، لعلّي أحظى بعدُ بأصابع ترتفع نحوي إعجاباً وتقديراً، وأنا “قابضْها جدّ”، غير منتبه أنني ما زلت بالشورت، وغير مدرك أن طاووسيّتي أمام البنات، كانت تضيع سدى، لأن الصبايا لا يستهويهنّ فتى ما زال بالشورت.
***
في المسويات، كان جدّي يصل باكراً من الساحة، فتضع له ستّي طعامه بكلّ احترام وتقديس. حتّى إذا انتهى، سأَلني: “هات تَ شوف، ماذا كتبتَ اليوم؟”، فأروح على ضوء قنديل نمرو 3، أو على نور اللوكس، أقرأ فروض الإنشاء بصوت عالٍ ونبرة خطابية، فيدمع جدي اعتزازاً، وتُنصِتُ إليّ ستي أكثر مما تُنصت إلى وعظة بونا جناديوس يوم الأحد. وإذ أنتهي، تغمرُني مرددة: “يقبرني هالصبي، بيحكي متل الشعّار” (أي، في قاموسها: الشعراء). وذات ليلة، قالتْها والتفتَت إلى جدّي: “بس دخلك يا ميلاد، أوعى يطلع متل هاك الأَخْوَت الـكان عنّا بالزوق”. واستفسرتُ منها عن ذلك “الأخْوَت”، فأجابت بلامبالاة مدهشة: “واحد كان يمشي ع الطريق، حامل عصاتو، يهزّ بكتافو ويحكي وحدو. كانو يقولولو الياس بُو شبكه…”. ليلتها، لم أنَمْ، ورحت أحلم بصورة أعجبتْني عن ذلك الأخْوَت، فصمَّمتُ أن أهتدي إلى كتبه. وحين اهتديتُ إليه في كتبه اهتديتُ إلى عالم الأدب. واليوم، ماتت ستي وهي لا تَعلم أن عبارةً قالتها في ليلةٍ من ليالي طفولتي، غيَّرَت مجرى حياتي كلّها، وجعلتني صوب حرفة القلم.
***
في أيام الصيف- وصيفياتي كانت جميعها في الضيعة- كانت ستي تنصُبُ على سطح بيتها خيمةً من أغصانٍ يابسة. مرةً سألتها: “ألاّ تخشين الحيّات يا ستي؟”، فقالت بكبرياء: “فشر. الماء صلّى عليها بونا جناديوس فصارت تطرد الحيّات”. ولكنني لم أفهم لماذا، في تلك الصيفية نفسها، قيل أن أسعد الزند تُوُفِّيَ بلسعة أفعى، مع أن مياهه، هو أيضاً، صلّى عليها بونا جناديوس.
على ذلك السطح، تروح ستي بعد الظهر، تكسر لي أكواز رمّانها الأحمر إلى حصص تسمّي واحدتها “الديك”، أو تحمل إليّ من الجنينية قدّام البيت، قوالب التين الناضج، وعناقيد العنب الملوّح الأشقر.
***
وكبرتُ أكثر، فكبرَت “شيطناتي”.
صرتُ أدخل على ستي خلسةً، وهي تصلّي، فأتسلّل إلى اليوك في الزاوية، وأروح أنقف الحصى الصغيرة من يدي صوبها على الأرض، فتظنّ أن الدبور- وكانت تسمّيه “عنتر”- يقذف بالتراب من شقوق الأوصال في السقف، فتقطَع صلاتها لتكيل له شتيمة من طراز متواضع، ثم تستغفر الله وتكمل صلاتها في خشوع وتقوى.
في تلك الحقبة، كان جدي صار يثق بإبداعي وعبقريتي في فروض الإنشاء، فصار يتركني بعض الوقت في الدكان أبيع وأقبض. لكنه، المسكين، لم يكن يعرف أن كلّ ما كنتُ أبيعه له، لا يوازي ثمنه قِطَع الشوكولا التي كنت ألتهمها مستغلاً فرصة غيابه.
وكنت كلّما استأذنْتُ ستّي للذهاب إلى الشوكولا- عفواً: إلى الدكان- وعندها جاراتها بَدُّوره وشفيقه وأمينة وسعدى ونيسا وأم خضّاع، انفلَشَت أمامهُنّ في محاضرة عن عبقريتي في قراءة الرسائل، وشطارتي في بيع الأغراض من الدكان. ثم لا تنسى أن توصيني بالمشي عن جانب طريق الكرّوسه.
***
قد يكون بترُ الذكريات، في هذا الشكل، طعناً بتلك الطفولة الحافلة مواضيع وأخباراً وطرائف لا يتّسع لها كتاب.
لكن ما أوردتُه، إن هو إلاّ لمحة عجلى، أتتْني وأنا في مستهل هذا الكتاب، دوّنتُها لأحبسها على الورق خوف ضياعها في الريح. فاليوم، تغيَّر كلُّ شيء في موقع طفولتي: ستي غابت، وغاب دكان جدي، وغابت الساحة، وتغيّرت الضيعة لتتعصرن بلمبات النيون، ووسعت الكرّوسه إلى طريق معبّدة، وانقلبت “الرامية” إلى أوتوستراد، وحسرت عن قرميدها البيوتُ لتصير فيلاّت وبنايات معلّبة تضجّ سطوحها بأنتينات التلفزيون.
ولعلّ هذا، واحدٌ من دوافعي إلى وضع هذه الأنطولوجيا عن أدب القرية في لبنان، هذا التراث الذي لا يعادله عندنا تراث.
كنا نؤُمّ ضياعنا تهذيباً أو اعتياداً. فلما هاجمتْنا العاصفة السوداء في حرب لبنان، هرعنا جميعنا إلى الضِّياع نحتمي، فوجدنا الحماية ولم نجد الضِّياع. لحقتْها العصرنة، فجزّت بساتين اللوز والتين والكروم، وأنبتت مكانها عمارات تتباهى بأناقتها، وشققاً مفروزة للبيع.
ويحضرني هنا عنوان كتاب أنيس فريحة: “القرية اللبنانية حضارة على طريق الزوال”. ولنا في فصول لحد خاطر كذلك، طعمُ الماضي كأعذب ما يكون الماضي.
***
القرية اللبنانية تراثٌ وإنسان. إنها حكاية أجيال مباركة، تشهد على غيابها كلّ سنديانة في كلّ ساحة ضيعة، وتشهد على حضورها ملامحُ ما تزال باقية في بعض الزوايا.
في هذا الكتاب، بين يديك، قصصٌ ونصوصٌ ينافس بعضُها بعضاً في الإخلاص لوصف الضيعة. إنها صور لبنان الماضي، تمتدّ بركتها علينا جميعنا.
مع هذا الكتاب- وأنا أُمضي حياتي في بيوت الإسمنت وطرقات المدينة العابقة ببخار البنزين وشوارع اللمبات الكهربائية- أحسُّني، في صفحاته، أرضيتُ بعضَ انسلاخي عن ضيعة ستي، وكلما مررتُ بها اليوم، طالعَتْني فيها شوارعُ حديثة، لا أنا أهفو إليها، ولا هي تعرف ذاك الفتى الذي كان يعبرها في هاتيك الأيام.
ألله… هاتيك الأيام!
بلى:
لي، بعد، من طفولتي، ذكريات…
ولي من ستي وضيعة ستي حكاياتٌ… حكايات.
_____________________________________________________________________
*) مقدمة كتابي “الضيعة اللبنانية بأقلام أُدبائها” (المكتبة الأهلية – 1980)