هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

501: “منكمِّل باللي بـِقْـيُـو”

“منكمِّل باللي بقْيُو”
السبت 16 حزيران 2007
– 501 –
و”اللي بقيو” باقون لأنهم مؤمنون، ولن يستطيع أحدٌ نزْع هذا الإيمان منهم.
و”اللي هاجرو” نفهمهم ونعذرهم ونتمنى لهم طيب الإقامة، ونهنئهم على أمن الدولة التي استضافتهم، وأمان الدولة التي احتموا فيها واستوطنوها وجعلوها وطنهم الثاني.
لكننا، نحن، سنبقى. هنا سنبقى. والى الأبد. ونعرف تماماً أن أيدي المؤامرة تمتدُّ إلى كل مكان، وتطال كل إنسان، وتلغي كل صوت لا ينصاع، وتهدِّد كل قلم لا يباع، وتدفع إلى الهجر والهجرة والهجران كلَّ من لا قدرة له على الصمود والمقاومة، حتى يفرغ لبنان من أهل الـ”لا”، فلا يبقى فيه سوى الثكالى والأيامى والأرامل واليتامى والعجائز ونساء لابسات سواد الحداد معتصمات بصبر مرير لا تخفِّف منه دموع الحرقة في الليالي الرهيبة الوحدة وفراغ الغياب.
نحن سنبقى هنا في وجه المؤامرة. ولن نركض من أمامها كالدجاج الطائش والأرانب المذعورة والجرذان الخائفة. سنبقى لأننا مؤمنون. بأرضنا مؤمنون. بوطننا مؤمنون. بمستقبلنا مؤمنون (ولو هو اليوم يتخبط في وحول التيئيس والتفكيك والتهديد والتهجير والتركيع). مؤمنون بأننا أهل عائلة لبنانية واحدة متعددة الطوائف والمذاهب لكنها تصلي لرب واحد، وتعبد الإله الواحد، وتدخل المصلى أو المسجد أو الكنيسة مكاناً للابتهال إلى الواحد الأحد الصمد، باسم الآب الرحمن الرحيم.
سنبقى لأننا مؤمنون بأن لبنان، لبناننا نحن، ليس فندقاً نتركه حين لا يعود يعجبنا، ولا شقة بالإيجار نغادرها حين نضجر منها، ولا بيتاً مؤقتاً نسكنه طالما نجد فيه الرفاه والرخاء وحين يتهدَّدنا فيه الخطر نغادره غير آسفين إلى بيت أكثر أماناً.
الوطن ليس أرضاً نولد عليها، ولا بيتاً ربينا فيه، ولا سماء نتغزل بصحْوها، ولا صنوبراً نتغنى بجماله. الوطن هذا كلّه، لكن هذا كلّه جزء يسير ضئيل أمام جوهر الوطن: الانتماء. وللانتماء شروط وضعها لنا أجداد مباركون عمَّروا لنا وطناً بجهدهم ونضالهم وتشبُّثهم بكل حبة تراب من الأرض، عمّروه لنا حجراً حجراً، بيتاً بيتاً، ضيعةً ضيعة، مدينةً مدينة، وسلمونا الأمانة وراحوا إلى المقلب الآخر مطمئنّين، فكيف نحن نخون الأمانة ونتركها عند هبوب الريح ونهرب، ليستولي عليها قراصنة وغرباء، ونروح نحن ندور شحادين على أبواب الدول نستجدي تأشيرة دخول أو إذن عمل أو مأوى ندفع له ذلَّنا وانكسارنا.
أصعب ما في التشرُّد أنه مؤقَّت يدوم، وأصعب الأصعب أن ينتهي المؤقت ويؤوب صاحبه إلى بيته فلا يجد بيته، أو يجد فيه من سكنه وبات في يده مفتاحه ويطرد عن بابه صاحبه الأصلي.
الذين باعوا كرامتهم اللبنانية إلى الغرباء من أجل زعامة أو وزارة أو نيابة أو رئاسة، أيعرفون أنهم يهددون لبنان بأن يصبح وطن الغرباء ولن يعود فيه مأوى لواحد منهم إلاّ إذا رضي بأن يكون خادماً في بيته السابق لأهل بيته الجدد؟
رهيب هذا الذي يجري! فاجع هذا الذي يحصل! لكن ما يخفِّف من هذه الفاجعة الرهيبة: أنّ بيننا من لا يزالون يتشبَّثون بالبقاء أكثر، ويناضلون أكثر، ويقاومون أعاصير الاقتلاع بالانزراع أعمق في كل شبر من أرض لبنان، والتمسك بكل إنسان من لبنان أياً تكن طائفته ومنطقته، إيماناً بأنْ لن ينقذَهُم إلا هذا التمسُّكُ والتكتُّلُ والاتحاد والتضامن والانصهار في مواطنية واحدة لا هوية لها إلا لبنان اللبناني قبل كل شيء وقبل كل أحد وقبل كل انتماء.
وبهذين الإيمان والانتماء، وذينك الانزراع والاتحاد، سيُثبت لبنان للعالم كله أنه جدير بالإرث الذي يحمله، وأنّ اليوضاسيين الخونة فيه ستحصدهم أغصان التين اليابسة، وسيبقى فيه أبناؤه المستحقُّون وطنهم لأنهم يؤمنون بلبنان اللبناني أولاً وأخيراً وبين بين.
وبهؤلاء وحدهم “منكمِّل باللي بقْيُو”.