هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

502: على نبع جُوعيْتْ

السبت 23 حزيران 2007
– 502 –
حين يطفح الاشمئزاز من تصاريح بعض السياسيين في الصحف، ومن وجُوههم على الشاشة، وأصواتهم في الإذاعات، لا يعود سوى اللجوء إلى حضن الطبيعة، وطبيعة لبنان (الباقي سليماً منها) أفضل دواء للشفاء من جراثيم السياسة وأصحابها.
عند مستديرة إهدن لافتة تأخذك إلى “سيدة الحصن” الرابضة بَهيَّةً تحت السماء بقليل فوق التلة الساحرة من إهدن الجميلة. ولكنّ لافتة ثانية تأخذ إلى محمية أرز إهدن، ولافتة ثالثة تأخذ إلى “نبع جُوعِيْتْ” وتشدِّد على أنه “مركز سياحي نادر”.
أيكون “نادراً” حقاً، أم انه “إغراء سياحي”؟ “هيا بنا”، ندهني عدنان.
الطريق المتأفْعنة إليه، هادئةٌ ساكنة لا يعكّرها سوى نفناف من الضباب الحافي يتسرَّب ناعماً بين الشجر بدون أن يَحجب عنا الطريق. نحن هنا على علو 1500 متر. الهواءُ على بعض لَفْح. بضعة منعطفات ويلفُّنا لِحْف الجبل. لا تعود فوقنا إلاّ زرقة الفضاء، عن يميننا زنّار الجبل: شِير شاهق متدفّق منه نهر ذو شلال مهرول بين الصخور، عن يسارنا مبنى تستقبلنا على مدخله لافتة: “مركز نبع جُوعِيْتْ السياحي”. ندخل المبنى. يستقبلنا “المعلّم فوزي” (“الأستاذ” يعرّف به مساعده: “كان كاتباً سابقاً بالعدل في طرابلس”). نفهم أنه صاحب المركز. يقودنا إلى فوق، إلى الفندق:”12 غرفة يا أستاذ. في العادة الغرف محجوزة كلّها. واليوم؟…”. يتنهّد “الأستاذ فوزي”. يسكت. يكمل عنه الحديث مفتاح يُدخلنا إلى إحدى الغرف. نظيفة. مرتبة. أُواصل إلى الشرفة: ها أنا على فوهة الوادي كأنني أراه من طائرة. تلال خلف تلال، بعضها يستريح عليها الضباب، بعضها الآخر تتأنّق عليه أشجار الدلب التي تسمح بأن يمر بين أقدامها نهر جُوعِيْتْ، منطلقاً من نبع جُوعِيْتْ وراكضاً نُزولاً نزولاً إلى طرابلس.
وما الـ”جُوعِيْتْ”؟ يشرح “الأستاذ فوزي”: “جُوعِيْتْ تعني الهدير أو الضجيج. في الشتاء يطوف النهر فيمزّق هدير شلالاته سكونَ الطبيعة. في الصيف يُسلْحب على مهل، متمشياً بين الصخور ومنعرجات الوادي. هذا النهر، يا أستاذ، ينبع من لحف حرج إهدن الشمالي الغربي. طوله نحو 20 كلم. ينساب بين عدد من قرى الزاوية وترفده ينابيع صغيرة حتى يخترق بساتين زيتون فيحيط بزغرتا جنوباً ويلتقي في ضواحي زغرتا بنهر رشعين. جوعيت نهر شتوي بامتياز، ينبع من أعالي الجبال قوياً وينسكب في أودية عديدة. يتسبّب أحياناً بفيضانات محلية. وفي تقليدنا المحلي عبارة شهيرة: “في سنة كذا حصلت طَوفة جُوعِيْتْ. وهذا النهر مشهور بمياهه العذبة ومناخه الصحي وأشجاره الجردية المثمرة”.
ننْزل من الفندق إلى المقهى/المطعم. على شرفته نجلس إلى طاولة كأننا على جناح طائرة. هدوء. بيئة نظيفة. هواء لبناني. تظلّلنا أشجار الدلب ينساب من بينها صوت فيروز فيزداد المكان سحراً وطابعاً لبنانياً كأننا خارج الراهن اللبناني الذي يحاصرنا.
يمد “الأستاذ فوزي” يده: “هنا على بضع خطوات: حرج محمية إهدن. مساحته نحو 350 هكتاراً. ارتفاعه يبدأ من 1200 وينتهي بـ2000 متر. تغطيه الثلوج طويلاً. هو الشاهد الأخير على طراز بدائي لغابات لبنان الطبيعيّة القديمة المذكورة في الكتاب المقدّس وملحمة غلغامش، وهو آخر موطن طبيعي جنوبي النصف الشمالي للكرة الأرضية، تنمو فيه مئات من أجناس أشجار وأعشاب وأزهار برية وثروة نباتيّة نادرة وفريدة بأنواعها، وكائنات حيّة لافقاريّة وفراشات مناطق مرتفعة نادرة، وحشرات ونحل بري وطيور ساكنة معشعشة، وحيوانات زحافة وبرمائية مهدّدة بالانقراض”.
يهبط الليل على المكان، ترتفع النجوم فوقه، يرمقنا قمر صيفي يزيد الإطار سحراً فَيَتَزَأْبَقُ الوقت منا ولا ننتبه.
“نمشي”؟ سألتُ عدنان.
“نمشي”، قال عدنان.
ومشينا… ومشى معنا نبع جُوعِيْتْ.