هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

ضيعةٌ ضئيلة: رابليه أَبو النثر الفرنسي
النهار العربي (88) – الجمعة 03 أيلول 2021

هنري زغيب

          حين هاتفني صديقي الكاتب عبدالله نعمان من پاريس يخبرني عن رحلة يستعدُّ لها إِلى متحف رابليه Rabelais، عابرًا 295 كلم في نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة، خلْتُه قاصدًا إِحدى مُدُن فرنسا العريقةِ الهيبةِ والآثار، بلُوغًا واحةَ هذا الكاتب الفرنسي الذي تُعزى إِليه بداية النثر الفرنسي المعاصر. سوى أَنه أَوضح أَنْ ليست لا دوڤينييرLa Devinière سوى ضيعة ريفية من القرن الخامس عشر بين الكُروم وسْط سويـي Seuilly من مقاطعة تورين Touraine.

          “بيتان وتَنُّور”

          هكذا وصفها لي عبدالله لدى وصوله إِليها. وإِنها فعلًا كذلك. أَهميتُها احتواؤُها متحفَ فرنسوا رابليه المولود فيها سنة 1483 (ويقال 1494) وكان في پاريس حين توفي سنة 1553. مختصر تواريخه بسيط: غادر تورين سنة 1510، صدر كتابه الأَول “بانتاغْرُويِل” سنة 1532، وكتابه “غارغانتُويَا” سنة 1534. واختصاره هكذا: راهب، طبيب، كاتب، عالِم نباتي. أَثَّر في الأَدب الفرنسي بعده، أُعجِب به ڤولتير فرآه “عبقري العصور الفرنسية”، ورأَى فيه غوستاڤ فلوبير “موهبة فريدة في الأَدب الفرنسي”.

           لمتحفه خمسة تواريخ. 1948: تهيئة “أَصدقاء رابليه” بيتَه في لادوڤينيير. 1951: افتتاح البيت متحفًا خاصًّا. 1980: ترميمُ البيت وملحقاته وضَمُّهُ إِلى لائحة الأَبنية الرسمية في تورين. 2002: وَسْمُ المتحف رسميًّا في “سلسلة متاحف فرنسا”. 2011: ضَمُّ المتحف رسميًّا إِلى شبكة “متاحف عظماء فرنسا” ضمن “اتحاد منازل الكُتَّاب”.

          كان ذلك بعد إِهمال طويل. فأُسرة رابليه غادرت البيت نحو سنة 1650. صنَّفَتْه الدولة سنة 1929 من البيوت التراثية، إِنما راح مع السنوات ينتثر أَجزاء حتى كاد يسقط لولا همَّة “أَصدقاء رابليه” الذين أَوكلوه إِلى بلدية تورين فراحت تهتم بجمع تراث رابليه لتهيئة المتحف حتى بات في صيغته النهائية: أَقسام موزعة على سيرته، مسيرته، صوَر عنه (بينها لوحة بتوقيع هنري ماتيس)، مطبوعاته، طبعاتُها القديمة، مخطوطاته، محفورات عنه، تمثاله النصفي، المغاور وكهوف النبيذ وخوابيها والمعصرة، برج من القرن السابع عشر، حديقة حول البيت. وسنة 2004 تم توسيع “كروم رابليه” بما يتَّفق والمحيط، والنبيذ الذي يشتريه السياح والزوار اسمه “كَرْم لادوڤينيير”.

          الزيارة

          الدخول إِلى المتحف مضبوط إِداريًّا و”كوڤيديًّا”: لا يدخله إِلَّا من يُبرز شهادة صحية تُثبت “نتيجته السلبية” لِمَن فوق الثامنة عشرة، وبطاقة الدخول (6 يورو) تتيح للزائر دخول البيت والمتحف والكهوف والأَقسام جميعًا. والزيارات خمس فئات: حرة (15 شخصًا حدًّا أَقصى)، مع دليل (على خطى الكاتب تسلسُلًا زمنيًّا)، بدون دليل (مع مطوية شارحة بالفرنسية والإِنكليزية والأَلمانية)، وفود الطلاب والتلامذة، وفود العائلات (لا أَكثر من 10 أَشخاص).

          ينتقل السياح من البيت بطبقتيه من حجارة الصفائح الطبشورية: الأَرضية لغرفة كبيرة مع مدخنتها الكبيرة، غرفة نومه في الطبقة الثانية، برج حمام قرميدي من القرن السابع عشر، فيه 288 طاقة بمعدل واحدة لكل زوج حمام، الغرف باقية كما كانت زمن الكاتب، الملحقات جميعًا كرومًا وحديقةً دائرية. هذا البيت بناه أَنطوان، والدُ الكاتب، وكان محاميًا في بلاط شينون. أَمضى فيه الكاتب طفولته الأُولى كما سردها ضمن الإِطار الطبيعي ذاته في كتابه “غارغانتُوْيَا”. سوى أَنه غادره نحو سنة 1510 سعيًا وراء المعرفة، فكان راهبًا في آنجيه وپواتو، وطالب في مونپلييه، ثم طبيب دار البلدية في ليون حيث وضع كتابَيه “بانتاغرويل” و”غارغانتويَا”، صدرا في مطلع عهد النهضة في فرنسا على عهد فرنسوا الأَول وشارلكان. حرَّمَ الكتابَين لاهوتيُّو السوربونّ لكن رابليه حظِيَ بحماية وُجهاء المملكة (في طليعتهم كاردينال پاريس جان دوبُليه) وتسنى له بهذه الحماية أَن يزور إِيطاليا غير مرة.

          جولة في المتحف

          من كنوز المتحف: أَغراض الكاتب طبيبًا وراهبًا، أَقوال الأُدباء فيه، مؤَلَّفاته، تنقُّلاته، رحلاته، لافتات لمقتطفات من أَقواله وخصوصًا الضاحكة منها، ما يَشي بما ورد في كتابيه من “معارك ملحمية” سردَها بشكل مضخَّمٍ كاريكاتوري.

          ويكتشف زائر المتحف كم كان رابليه من كبار مثقفي عصره: عالِمًا، مترجمًا، خبيرًا نباتيًّا، عالِم فلك، طبيبًا معالجًا، واضعَ نصوص علْمية كانت مراجع في عصره. والمحافظة على البيت والمتحف جعلت منظمة الأُونسكو تُدخلهما ضمن لائحة “تراث الإِنسانية العالمي”.

ولزوار المتحف أَن يغْنموا من “زيارة سمعية” أُضيفت أَخيرًا: يتجولون في المكان بجهازهم المحمول وفيه شرحٌ مسجَّل عن كل مُفْرَدة من المكان.

          وإلى الزيارة التقليدية تنظم إِدارة متحف رابليه لقاءات ومحاضرات حول سيرته ومسيرته، ومعارض لأَعماله وأَعمال معاصريه من مطالع عصر النهضة، في برنامج سَنَوي متِّبَعٍ بدقة وانضباط.

          قد يبدو مقالي هذا دليلًا سياحيًا أَو ثقافيًّا. لا يزعجني هذا الانطباع، لأَن في بالي صورةَ كيف دولةٌ تبني تاريخها على كنوز أُدبائها ومبدعيها، تحافظ على ممتلكاتهم ومقتنياتهم كي يَسطَع وجهُها في التاريخ.

          حين الدولة تحفظ إِرثها الحضاري

          لدى عودة عبدالله نعمان من “أُسبوعه الثقافي” في تُورين، هاتفني مطوَّلًا حول “التراث الإِبداعي” تَكتنزُهُ فرنسا ثروةً عظيمة كما سائر الدول الحضارية، وهو أَبقى وأَرقى من ثروة “نفط أَسْوَد” سينْفَد مع نهاية القرن الحالي. وحكى لي عن زوار تلامذة شاهدهم يتلمَّسون أَماكن كاتب هو بين أَوائل من يدرسون أَدبهم بل طليعة النثر الفرنسي المعاصر بعد التخلي عن اللاتينية المتفرنسة في القرون الوسطى. وختَم أَن منطقة تورين ذاتها عرفَت بعد رابليه كبيرَين آخرَين: الشاعر أَلفرد دو ڤينيي (فيها شارع رئيس باسمه)، والروائي الخالد بَلزاك الذي كتب في إِطار طبيعة تورين بعض أَجزاء رائعته الخالدة “الكوميديا البشرية”، وفي روايته “الزنبقة في الوادي” جاء: “لا تسأَلوني لماذا أُحب منطقة تورين. لا أُحبها كما يُحَبُّ سرير الطفولة ولا كما تُحَبُّ واحة في صحراء. أُحبُّها كما فنان يُحِبُّ الفن”.

          بلى: هكذا كاتبٌ يُحِبُّ منابع تراثه، وهكذا دولةٌ حضاريةٌ تحافظ، له ولها، على هذا التراث.

            كلام الصور:

          – متحف رابليه من الداخل

  1. غرفة نومه مستعادةكما كانت
  2. المتحف والبرج
  3. تمثاله النصفي في المتحف
  4. عبدالله نعمان على مدخل المتحف