هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

“نقطة على الحرف” – الحلقة 1420
من آنيَّة اللقطة إِلى خُلُود اللحظة
  إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحـد 14 تموز 2019

          اللحظة تاريخية. الحدث تاريخي. الصورة تاريخية. الهوية أَميركية.

          نحن يوم الأَحد 20 تموز 1969. الساعة 10:56 ليلًا بتوقيت واشنطن. ينبعث من الفضاء الخارجي صوتُ رجلٍ يقول: “إِنها خطوة صغيرة لإِنسان، لكنها خطوة كبيرة للإِنسانية”.

          في تلك اللحظة، يلتقط أَحدُهم صورةً للرجل، صورةً جانبية فلا يبدو سوى ظَهره. إِنها الصورة الوحيدة لتلك اللحظة التاريخية وذاك الرجل التاريخي وتلك العبارة التاريخية.

          صورةٌ واحدة وحيدة، وتغيَّـرَ تاريخ البشرية على الأَرض: وَطِئَ رجلٌ أَرض القمر.

          الرجل: نيل أَرمسترونغ (1930 – 2012). ملتقِطُ الصورة: زميلُه إِدْوِن آلدْرِن. اللحظة: أَرمسترونغ – مدججًا بالأَدوات والآلات – يترجَّل بقَدَمه اليُسرى من العربة الفضائية استعدادًا للسير على أَرض القمر.

          لم تكن ممكنةً رؤْيةُ وجهِه، فزميلُه صوَّرَه من ظهره لأَن غاية الصورة كانت ما ينبسط أَمام الكاميرا من مساحة متوسطة وبعيدة على أَرض القمر. منذ تلك اللحظة، لم يعُد القمر رمزًا يخُصُّ الشعراء وحدهم بل بات كوكبًا يخُصُّ أَهل الأَرض جميعًا. بات القمرُ “جارًا” للأَرض.

          السبت المقبل: 20 تموز 2019، تحتفل الــ”ناسا”، وتحتفل أَميركا، ومعها العالم كلُّه، بِـمُرور خمسين سنةً على تلك اللحظة التاريخية.

          بعد خمسين سنةً تبقى من تلك اللحظة الفريدة في التاريخ: صورة. صورةٌ واحدة. ويسجِّل التاريخ بِـحِرصٍ تلك الصورةَ/الكَنْز.

          قبل خمسين سنةً كانت الفوتوغرافيا لم تكتَشِف بعدُ تقْنيةَ الــ”سِلْفي”. اليوم الــ”سِلْفي” عمَّت العالم، ولكن… إِلى تخليد أَيِّ لحظة؟

          قبل خمسين سنةً كانت تلك الصورة حدَثًا لا يتكَرَّر، وهُنا قيمتها الفريدة في الزمن. اليوم لم تَعُد الصورةُ حَدَثًا. وخصوصًا صورةُ الــ”سِلْفي”.

          قبل خمسين سنةً تلك الصورةُ الفريدة – على صعوبة التقاطها ولو من الخَلْف – هي اليوم ثروةٌ للبشرية تُــؤَرِّخ لحظةً لا تتكرَّر. واليوم ملايين الصُوَر تُؤْخذ “سِلْفيًّا” ولا تُحفَظُ منها واحدةٌ لأَنها إِلى زوالٍ بلا قيمة للبشرية.

          صعوبةُ تلك الصورة، قبل خمسين سنة، تجعل قيمتَها كنْزًا يعني ذاكرة الإِنسانية. واستسهالُ التصوير اليوم يَجعل الصُوَرَ بلا قيمةٍ تاريخية لأَنها تَذُوب في ذاكرة الهاتف ولا تَعني أَحدًا إِلَّا مَن التقطَها.

          قيمةُ الفوتوغرافيا ليست في سهولة التقاط الصُوَر، بل في صعوبة اختيار اللحظة.

          لحظةٌ لا تتكرَّر، تُؤَرِّخها صورةٌ واحدةٌ تكون حَدَثًا/ذُخْرًا للآخرين. وملايين اللحظات، “سِلْفيًا” و”غيريًّا”، لا تستفيد من تَقَدُّم الفوتوغرافيا إِلَّا أَنانيًّا وفي لحظاتٍ هاربةٍ عابرةٍ زائلةٍ لا يَدُوم معظمُها إِلَّا ثانيةً عند التقاطها، وثانيًة أُخرى عند مَسْحِها من ذاكرة الهاتف الـمَحمول.

هنا نَـحنُ إِذًا: آنيَّةُ لقطةٍ بائِدة وخُلُود لحظةٍ سائِدة.

          صورةٌ واحدةٌ، قبل خمسين سنةً، تَتَنَاقَلُها ذاكرةُ العالم حِفْظًا وتأْريخًا.

اليوم، بعد خمسين سنة، أَيُّ قيمةٍ لـصورةِ “سِلْفي” جديرةٍ بأَن تَتَنَاقَلَها إِلى التاريخِ ذاكرةُ العالم؟

هـنـري زغـيـب

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib