هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

“نقطة على الحرف” – الحلقة 1334
ملائكةُ الأرض قبْل ملائكة السماء
إِذاعة “صوت لبنان” – الأحد 12  تشرين الثاني 2017

كي لا يُصبح ملاكًا في السماء بسبب إِهمال شياطينِ الأَرض

صَعَقَني قبل يومين، في أَحد شوارع بيروت، مشهدٌ يهلَع له الضمير قبل القلب، قلَقًا على أَطفال أَبرياء، وغضبًا على المسؤُول عن المشهد، وهو باصٌ صغير معَدٌّ لنقل عشْرة ركاب، خُلعَت عنه النوافذ والأَبواب الجانبية والخلفية، واستعيض عنها، كالسيارات الـمُعَدّة لنقل السجناء، بقضبان حديدية رفيعة منفرجة المسافات، حَشَر فيها السائق أَكداسًا من الأَولاد بانُوا كأَنهم صيصان، فراريج، أَغنام، ملزوزين عشوائِيًّا كسمَك السَردين المضغوط في علبة التَنَك.

قلتُ إِنّ هذا المشهد يصعق القلبَ والضمير: القلبَ على تلامذة صغار ويافعين غيرِ مدركين خطورةَ لحظةٍ فجائية لحادثِ صدمٍ أَو انقلابٍ أَو توقُّف فجائي يقْلُبهم على بعضهم بعضًا فيما هم يضحكون ويمرحون مادِّين أَيديهم أَو أَرجلَهم من بين القضبان الحديدية المنفرجة في مؤَخرة الـﭭـان أَو عن جانبَيه، وهذا المشهدُ يصعَق الضمير غَضَبًا على ثلاثة مسؤُولين:

  • سائقُ الـﭭـان الذي فكّك من سيارته جميع وسائل الأَمان من أَبواب ونوافذ واستعاضَ عنها بقضبان حديدية منفَرجة خطِرة تهدّد كلّ لحظةٍ بانزلاق ولَدٍ من بينها أَو من تحتها.
  • الأَهلُ الذين استرخصوا وسيلة نقْل أَولادهم فارتضوا أَن ينقلَهم باص مُـخَـلَّع أَشبه بشاحنةِ ماعز من دون ضوابط.
  • شرطيُّ السير الذي يمرُّ أَمامه الباص وهو لاهٍ بجهازِهِ الخلَوي أَو بالتهام سندويش قدَّمه له صاحب الدكان المجاور كي يسمحَ للسيارات أَن تتوقّف على مدخله ولو سبَّبت زحمة سير.

هذه هي “الإِصلاحية” التي انحشر فيها أَولاد مساكين لا يُدركون أَيَّ خطر ينتظرُهم. هذا هو الخطر المتنقّل في شوارع بيروت يوميًّا حتى بات مشهدًا عاديًّا أَليفًا لا يتوقَّف عنده المواطنون. وأَخطرُ ما في الخطر أَن يصبح الشواذُ مأْلوفًا، لا نظامَ يراقبه ولا قانونَ يضبطه فتتتالى المشاهد المؤْذية المنفّرة حتى الهلع بلا اندهاشٍ حيالها ولا إِجْراء، ولا تدارُكَ لأَمن الأَولاد المعرَّضين للفاجعة في كلّ لحظة.

في البلدان المتحضرة، باصُ المدرسة مكرَّس: تَوَقُّفُهُ مؤَمَّن بِـيَـدٍ آليةٍ تَـمتدُّ كي تنبِّه السائقين وراءَه وأَمامه فيتجمَّدوا على 50 مترًا قبله أَو خلفه، والسرعةُ أَمام شارع المدرسة محدودةٌ لا تتجاوز 30 كلم في الساعة، وجميعَ ضرورات الأَمان متوافرةٌ في الباص حتى نزولِ آخر تلميذٍ بأَمانٍ أَمام بيته. بينما عندنا يخلَع السائقُ الأَرعنُ مقاعدَ السيارةِ الأَصليةَ ويستعيض عنها بمقاعد خشبية أَو حديدية طمعًا باستيعاب عددٍ أَكبرَ من الأَولاد يحشُرهم عليها ولو تضايقوا ولو اختنقوا ولا تآذَوا، وهو يهوِّل بهم بين الشوارع، في يده سيجارةٌ وفي اليد الأُخرى جهازُهُ الخلَوي يتباسط به مع أَصدقائه معَرِّضًا هذا الباص لجميع أَنواع الفواجع والخطر.

مَن المسؤُول عن هذا المشهد الخطِر؟ لا يبدو أَن أَحدًا مسؤُولٌ عنه، والتلامذة متروكون لقَدَرهم الأَسْوَد بقيادةِ سائِقٍ غيرِ مسؤُول، وشرطيٍّ غيرِ مراقِب، وأَهلٍ غيرِ مبالين، والكارثةُ قد تقع في أَيِّ وقتٍ، ولا يـبـقى منها إِلَّا دموعُ أَهلٍ لم تَعُدْ تُـجدي، وصُوَرٌ على الحيطان مكتوبٌ تحتها: “يا وَلَدنا الـمَلاك… صَـلِّ لنا في السماء”.

هـنـري  زغـيـب 

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib