هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

أزرار- الحلقة 908
عَــودَةُ السُّــنُــونُــو *
السبت 12 أيلول 2015

رحَلوا…

          حمَلوا يأْسَهم وأَطفالَهم وأُفقاً مقْفَلاً في وطنهم، ورحَلوا…

          في البر رحَلوا هائِمين إِلى صحارَى بلا وُجُهات، وفي البحر رحلوا إِلى شواطئَ لا يعرفون مَوانيها.

          منهُم مَن نَـجَوا فوصلوا إِلى أَرضٍ موعودةٍ تنتظرهم بـخيام اللاجئين النازحين ارتَموا فيها من إِرهاق الطريق.

          ومنهُم مَن انتَهت رحلتُهم بصورةٍ هزَّت العالَـمَ لـطفلٍ دَحرجَــتْــهُ الأَمواجُ إِلى غفْوةِ وجهِه الأَخيرة على فِراش الرَّمل.

          رحَلوا جماعاتٍ وأَفواجاً كما ترحلُ أَسرابُ السنونو.

السنونو تنزح عن سمائها الأُمّ من طقسٍ إِلى طقس، هاربةً من ظُلْمِ الريح وظَلامِ النهار وظُلامةِ القَيظِ والبردِ والمطَر إِلى واحاتٍ أَكثرَ أَمناً مناخياً وأَمانَ لُجوءٍ وأَمانةً هانئة.

وهُم ينزحُون عن أَرضهم الأُمّ من بلدٍ إِلى بلد، هاربين من ظُلْم الحرب وظَلام الموت وظُلامةِ الجوع والخوف والتشرُّد إِلى أَيِّ بلدٍ أَكثر أَمناً وأَماناً وأَمانة.

السنونو تَهجُر أَوكارَها ولا تُهاجر. وهُم يَهجُرون بيوتَهم ولا يُهاجِرون.

السنونو تُغادر لتَعود. وهُم يغادرون ليَعودوا.

السنونو لا تستقرُّ حيثما تصِل بل تَلجأُ مُوَقَّتاً في انتظار تَغَيُّر الطقس والمناخ والظُّروف الطبيعية، كي تَعودَ إِلى سمائِها الأُمّ هانئةً بالعودة مُبشِّرة بـبُـزوغ الشقائق الحمر في أَرض الربيع الأَخضر.

وهُم يلجأُون مُوَقَّتاً إِلى أَيِّ أَرضٍ في انتظار تَغَـيُّر الطقس الحربي والمناخ الخَطِر والظُروف السياسية وانحسار الموت عن أَبواب بيوتهم كي يَعودوا هانــئـين إِلى بلْدتِهم وبيتِهم وغرفَتِهم وفِراشِهم وحديقتِهم بدأَت تَبزُغُ فيها أَزهارُ الربيع.

قد تطولُ غَيبةُ السنونو الموَقَّتة في الأَجواء البعيدة. ما هَـمّ. الـمُهمّ أَنها وفَدَت إِليها كي تُغادرَها بعد حينٍ مهما طال الحين.

وقد يطولُ نأْيُهم الموَقَّت في الأَراضي الغريبة. لا يَهُمّ. الـمُهمّ أَنهم قَصدُوها لا ليستقرّوا ولا ليستوطِنوا بل ليُغادِروها بعد مدّةٍ مهما طالت المدّة وتوفَّرَت تسهيلاتُ اللجوء.

أَملُ السنونو بالعودة هو الطريقُ والدليلُ والعلامة.

وأَملُهم بالعودة هو ماءُ الرّجاء الطالعُ من تُراب يأْسِهم، وفي يدهم مفتاحُ البيت يحملونَه في انتظار الرُّجوع إِلى البيت.

هذا هو الفرقُ بين الرحيل والهجْرة. الرحيلُ مُوَقَّتٌ في انتظار العودة. الهجْرة دائمةٌ لا تَنظر إِلى الوراء.

الذين ارتحلُوا قسْراً، هاربين من قَدَر بلادهم السياسيّ والأَمنيّ والعسكريّ، يَنظُرون دوماً وراءَهم وينتظِرون انحسارَ القدَر الظالم ليعودوا يواصلون قدَرَهم في أَرضهم الأُمّ فلا يموتُون عند أَرض غَريبةٍ غُرباءَ في مقابر الغُربة.

وكما تعود السنونو مُعْلنةً صباحَ الربيع، هكذا سَيعودُون إِلى الأَرض التي شرّدَهُم عنها خريفُ الموت ليعانقوها، مهما طال ارتحالُهم، ويَــبُـوسوا صباحَها الطالعَ إِلى ربيعِ الحياة.

 __________________________________________________________________________________________________________________________________________

* “النهار” – السبت 12 أَيلول 2015