هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

أزرار- الحلقة 888
العلمانية… والوطن للجميع
السبت 11 نيسان 2016

 

          نَشَبَ سجالٌ في فرنسا حول رفْض إِدارة وسائل النقل العام في باريس نشْرَ ملصقٍ في مترو المدينة يروّج لسهرة موسيقية تحيـيها على مسرح “الأُولـمـﭙـيا” فرقةُ “الكهنة” ويعود ريعها “لصالح مسيحيي الشرق”.

          حجةُ الإِدارة أَنّ الطلب “يتعارض مع قوانين الحياد والعَلمانية في المساحات الإِعلانية العامة” وهو ما أَزعج المونسنيور جان ميشال دي فالكو لياندري (أَحد مؤَسسي “الفرقة” من ثلاثة رهبان) فأَثار حملةً لدى سياسيين استقطبَهم للاعتراض. وكانت الإِدارة ذاتُها رفضت (تشرين الثاني 2012) نشْرَ ملصق يُعادي الإِسلام لأَنها “حملةٌ ذات طابع ديني.”

          هذا الأَمر ليس جديداً على فرنسا التي كان رأْس مبادئ ثورتها سنة 1789 فصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التعاطي في شؤُون الدولة وإِبعادهم عن قطاعها العام. ومن هناك تأَسست فرنسا علمانيةٌ أَنهت تسلُّط الإكليروس.

          لبنان عَرَف هذا الأَمر قبل 133 سنة عند “احتجاج أَهالي جبل لبنان ضدّ سياسة المتصرف الثالث رستم باشا مارياني (لاتيني إِيطالي الأَصل) وكان عَلمانياً صارماً ساءَته مُداخلاتُ رجال الدين في شؤُون السياسة ومحاولاتُهم تسيـيرَ شُـؤُون الحكْم لـمصالحهم، فوقف في وجههم بـحزمٍ وحالَ دون ممارساتهم…” (رياض غنّام، محاضرة “لبنان في الأَرشيف الأَهلي”).

          اليوم، بينما يَغرق الشرق في براكينِ عُـنفٍ ديني ومذهبي، يبقى الخلْط ضبابـياً كثيفاً بين الدين والعَلْمانية، بين الحياد واحترام مشاعر الآخرين. ويزداد الخلط تعتيماً في اعتبار العلماني كافراً أَو زنديقاً أَو وثنياً، مع أَن العَلْمانية لا علاقة لها بالدين.

العَلْمانية لا تعني نكران الدين بل مزاولتَه الروحية داخل حَرَمه، واحترامَ سائر الأَديان، ومزاولةَ العلمانية في شؤُون الدولة دستوراً ومجتمعاً وقوانين وتشريعات. فرنسا ملأَى بالكنائس وفي الولايات المتحدة عشَرات المذاهب الدينية، وفي الدولتين تُسيِّر العَلْمانيةُ وحدَها شؤُون الدولة.

والحياد لا يعني انتفاءَ الرأْي الشخصي بل النأْيَ عن الدخول في محورٍ دون آخَر كي لا يَستجـرّ موقفاً مناهضاً “مع”، أَو عنيفاً “ضدّ”. وهذا ينسحب في البلاد على مصالح عامة تطال سواسيةً جميع المواطنين لأَن القطاع العام ليس مُلْك أَحد ولا “في قبضة” أَحد، ولا تدخله حسابات الأَزلام والمحسوبيات والإِقطاعيات السياسية والمذهبية والدينية. القطاع العام مُلْكُ الدولة التي تفصل الدين عن شؤونها وتحترمه في أَحرامه، على أَن يحترمها في أَحرامها فيكون الدين لله والوطن للجميع.

وما نشهدُه اليوم من مجازر باسْم الدين والدينُ منها براء، وراءَها أَنظمةٌ مشبوهةٌ ذاتُ تركيـباتٍ سياسيةٍ ترتكب الدين وسيلةً فتفْصله زُوراً عن جوهره الحنيف الأَقدس.