هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

أزرار- الحلقة 874
“الــنُّــعـمـى” التي تُــبارك المكان
السبت 3 كانون الثاني 2015

 

        مع انغلاق اليوم الأَخير من السنة، أَغلقْتُ نهائياً بابَ مكتبي بعد 37 سنة أَمضيتُها فيه كاتباً وقارئاً، ما لم أَكُنْهُ في البيت.

          وحملتُ مكتبتي إِلى البيت، مستقرةً فيه ومستقراً معها، فإِذا استقرَّت بي حالةٌ لم أَعِشْها من قَـبْـل في بيتي.

          إِبّان إِقامتي سنواتٍ ستّاً في منآي الأَميركي الـمُؤَقّت على “بحيرة الليمون” في فلوريدا، وكانت فتراتٌ صعبةٌ هنا طال فيها القصفُ خليج جونيه وذراعَيْه، لم أَكُن خائفاً على إِصابة بيتي بقدْر خوفي على أَن تصيبَ قذيفةٌ مكتبي فتُحرِقَ مكتبتي. إِلى هذا الحد كان تعلُّقي بمكتبَتي وما في ثناياها من كُتُبٍ لسواي ومخطوطاتٍ لي وأَوراقٍ تنتظرني لأُكمل ولادةَ ما تحتضِن.

          وحين قررتُ أَن أُغادر مكتبي نهائياً، كان قراري الـموازي نقلَ مكتبتي إِلى البيت، وسَّعتُ لها فيه ما تستحِقُّ من مدىً مُريح.

          وبعدما كان بيتي مأْوى لنَومي أَصبحَ واحةً ليَقظَتي. ولأَنّ في يومِيِّ عاداتي أَلاَّ أَنامَ قبلَ أَن أَقرأ، يكونُ كلَّ مساء حَدَّ تختي كتابٌ أَو كتابان، مما يَصلُني حديثاً أَو ما أَنتَقيه من مكتبتي في المكتب، كي لا أَدخلَ امتلاءَ النوم فارغَ اليدَين من كتاب.

          سوى أَنني، منذ نقلْتُ مكتبَتي إِلى البيت، أَمسَيتُ في شعورٍ آخَر: بعدما كان كتابٌ رفيقَ ليلتي، وربما كتابان، أَصبح بيتي احتفالاً يُحيـيه ليلياً ويومياً عشَراتُ الكُــتَّــاب ومِئَات الكُــتُب. وبعدما كنتُ أُغلِقُ الكتابَ على مِـخَـدّتي، وأُطفئُ النورَ في غرفتي، وأَنامُ فأُصبح وَحدي أَكثر مما أَنا والكتابُ بين يدَيّ، باتَ النورُ ينطفئُ في غرفتي وتبقى الأَنوار ساطعةً في غرفة المكتبة، وأُحِسّ بالمؤَلّفين فيها يقِظين أَحياءَ مُتحاورين مُـجتمعين مُنـتدين حول كتُبِهم بين كتُبِهم أَمام كتُبِهم اخترتُ منها واحداً لقراءتي قبل النوم، فأَنام بينهم ولا أَكون وحدي، وأَستيقظُ بينهم يستقبلونَني صباحاً فلا أَنا نمتُ وحدي ولا عُدتُ أَعيش وحدي في هذا البيت.

          غريبٌ هذا الشعور، وعذْبٌ في الوقت ذاته.

          غرابته أَنْ لم أَكُن أَشعر “بهم” حين كانوا حولي في المكتب هناك، حتى إِذا انتقلوا معي إِلى البيت أَصبح لـلــ”هُنا” مَدىً آخَر.

          وعذوبتُه أَنني بتُّ أُحسُّني مُحاطاً “بهم”، محروساً “بهم”، أَتقاسم البيت “معهم” ويقاسمونني وحدتي فتَنكَسِر منها مرارةُ الوحدة.

          أَإِلى هذا الحد، يكون للكتابُ مكان؟

          كان المكان تباركُه “الــنُّــعمى”. تأْتيه حافيةَ القدَمَين فتقَدِّسُني وتقدِّسُه.

اليوم بات للكتاب أَيضاً سُطوعُ مَكانٍ بفضْل “الــنُّعـمـى” التي شاءَتـهُ ينتقلُ معي إِلى البيت حتى، حين تَدخلُه بقدَمَيها الحافيَتين، تُكَــرِّسه وتُـقَدِّسه، وتُبارك مَن فيه و… “ما” شاءَتْهُ فيه.