هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

أزرار- الحلقة 857
بين المَحكيّ والمقصود
السبت 6 أيلول 2014

 

        يومَ سُئِل الحكيمُ الصينيّ كونفوشيوس (551-479 ق.م.) عن أَول ما يُحقِّقه إِذا تَولّـى الحُكْم، أَجاب: “إِصلاح اللغة”. وبدا جوابُه غريباً لسامعيه فشَرَح: “إِن لم تكن اللغةُ سليمةً فما يُقال ليس ما يُقصَد قَولُه، وما يجِب إِنجازُه يبقى بدون إِنجاز فتتقهقرُ الأَخلاق والفنون، وتنحرف العدالة ويضيع الناس. الأَولوية: اعتمادُ اللغة الدقيقة في الكلام”.

          لا أَبلَغ من هذا القول قبل2500 سنة لوصف ما نعاينه كلّ يوم: كلماتٌ مرميّةٌ بدون مسؤُولية، كلماتٌ بدون مرمى تذهب إِليه، كلماتٌ محكيّةٌ أَو مكتوبةٌ بعيداً عن مدلولها، لفظُها نقيضُ مُضْمَرِها، في انفصامٍ فاجعٍ بين المحكيّ والمقصود.

          كلّ يوم نسمع كلاماً مكرَّراً مسَطَّحاً آلياً بــبّــغاوياً نعرف أَنّه من دون مسؤُولية المعنى أَو المبنى أَو القصد، ومن دون تمييز بين قائل أَو كاتب، خصوصاً على المستوى السياسي وهو الطامة القاتلة من الكلام غير المسؤُول ويدَّعي المسؤُولية، غير الـمَعنـيّ ويدَّعي الـمَعنى، غير الـمُجْدي ويدَّعي الـجَدوى، وهذا خطرٌ كارثيٌّ على وطنٍ رازح تحت حُكْم سياسيّــيه، وعلى شعبٍ يُصدّق كلامَ سياسيّـــيه ليكتشفَ ذاتَ استفاقةٍ (غالباً مـتـأَخِّــرة) أَنه كلامٌ هوائيٌّ قابضٌ على وهْمٍ وأَنْ ليس في كفّ الشعب سوى قبضة ريح.

          خُطَبٌ سياسية، مؤتمرات، تصاريح، مواقف مُعلَنَة (واقِعُ معظمِها غير معلَن)، أَكداسُ كتابات على ورق الصحف والمجلات وفي نصوص الإِعلام وصفحات المواقع الإِلكترونية وعلى أَجهزة البَثّ الصوتية والبصرية، في ملايين الكلمات المرميّة مجاناً بدون مضمون.

نماذج من عندنا؟ هنا بعضُها القليلُ أَمام كثيرِ الكلام من معظم السياسيين.

          “كلمات كلمات كلمات” معلّبة يتلفّظون بها للاستهلاك الشعبي والإِعلامي والسياسي ويُضْمِرون عكسها أَو نقيضها.

          يتحدَّثون عن رفض الطائفية ويعملون على تغذية الرُّوح الطائفية.

          يتحدَّثون عن مبادئ احترام الآخر ويهاجمون الطرَف الآخر.

يتحدَّثون عن احترام الشعائر الدينية وفي الكواليس يُحرّضون جماعاتهم على إِحداث بلبلات مذهبية.

يتحدَّثون عن ضرورة الحوار ويقاطعون منابر الحوار وجميع جلساته.

يتحدَّثون عن ضرورة انتخاب رئيس جمهورية يكونُ… على مقاسهم.

يُـخبِّــئون وُجوهَهم وراءَ كلماتهم، لكن أَقنعتهم باتت مكشوفة.

بهذا الكلام غير الدقيق لهذا الصنف من المسؤُولين تنحرف العدالة ويضيع الناس بسبب الخُطَب السياسية المضلِّلة.

          استعمالُ لغةٍ في غير مقصدها خطرٌ صامتٌ يَقتل شعباً كاملاً بكاتم ضمير.

          وحدَها اللغةُ الدقيقةُ السليمةُ معيارُ الناطق بها أَو كاتبها، وهي التي تَبني الأَوطان والأَجيال.

          لذا، قبل 2500 سنة، قال رجلٌ رؤْيويٌّ إِنه يَنوي إِصلاحها لو كان له يوماً أَن يتولى الـحُكْم.

_____________________________________

http://claudeabouchacra.wordpress.com/2014/09/13/