هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

نقطة على الحرف- الحلقة 1160
“السَّـــقّـــا… مـــات”
الأَربعاء 16 تَـمُّــوز 2014

 

        أَتــذَكَّر، هذه الأَيام، الصحافي والسياسي الفرنسي إِميل دو جـــــــيراردان (Émile de Girardin) {1802-1881} مؤسس جريدة “لا ﭘـْـرِسّ” (La Presse) الشهيرة التي كتب فيها يوماً افتتاحيةً بعنوان “الحُكْم هو الـتـوَقُّـع” (Gouverner c’est prévoir)، مع ما لكلمة “توقُّع” هُنا من مرادفاتٍ أَبرزُها: الاستدراك، التكَهُّن، التقدير المسْبق، الاحتراز، الاحتياط، التأَهُّب، التحَسُّب، الترَصُّد، … وسواها.

          جاءَني هذا التذكُّر حين طالعَنا الإِعلام قبل أَيامٍ بنغمة أَن يستوردَ لبنانُ المياه من تركيا.

          ماذا؟؟؟ استيراد المياه من تركيا؟؟؟ وإِلى أَين؟؟؟ لا إِلى بلادٍ صحراوية، ولا إِلى بلادٍ جافة، ولا إِلى بلادٍ نائيةٍ عن كلّ بحرٍ وكلّ نهرٍ، بل إِلى…… لبنان الْـــكان “قصر المياه في الشرق الأَوسط”.

          شو يعني إِلى لبنان؟ يعني إِلى بلاد الأَنهار والينابيع والعُيون والثلج والآبار والبرك الطبيعية.

          ولماذا؟ لأَنّ “السقَّا مات” (عنوان قصة ليوسف السباعي انتقلت إِلى السينما)؟

كلاّ، بل لأَنّ الرائي مات، والرائي هنا هو الـمُتبصِّر الذي أَولاه المواطنون أَن يَسوسَ أُمورهم فساسهم نحو الهلاك.

          الرائي المفترضُ فيه أَن يضع حُلولاً للماء والكهرباء فلا يدفع المواطن فاتورةَ كهرباء للدولة وفاتورةً لصاحب المولِّد المتحكِّم بالمواطن وفاتورةَ مياهٍ للدولة وفاتورةَ مياهِ شُرْب للسوﭘـّرماركت وفاتورةَ مياهٍ لصاحب الصهريج المتحكِّم بالمواطن في سوق سوداء قاتلة.

          الرائي الذي لم يسمع أَنّ البلدان الصحراوية أَنشأَت معامل تحلية مياه البحر واستَبَقَت الكارثة فأَمّنت لأَرضها المياه ورفعَتْ عن شعبها هلعَ العطش وأَطلعت من الرمل أَشجاراً وأَزهاراً وخُضرةً تغمرُها جميعَها المياه، ونحن بلاد الأَشجار والأَزهار والخُضرة صَـحْـرَنَـهَـا الرائي الأَعمى بعُـقْم رؤْيته وعَجْزه عن أَن يرى أَبعدَ من أَنفه.

          الرائي الذي تفاجئُه الكارثة فيَطلب من مواطنيه الحيطة والحذر ولا ينسى أَن يهدِّدهم بدفع فواتير الماء والكهرباء للدولة كي تفي بالتزاماتها وتؤَمِّنَ مواردَها للمياومين والمتعاقدين والمتقاعدين وسلسلةِ الرتب والرواتب.

          الرائي الذي يغفو كالصرّار طوال أَيام السنة، وحين يصحو على الكارثة ينصح شعبه بترشيد استهلاك المياه والكهرباء وعدمِ إِنارة كلّ البيت وعدمِ رَيّ الحدائق والبساتين والمزروعات ولا ينتبه إِلى سوق سوداء يَبطُش فيها بالناس أَصحابُ المولِّدات والصهاريج.

          الرائي الذي لا يَعمَد إِلى بناء سدودٍ في بلادنا التي معظمُ جيوبِ الجبال فيها سُدودٌ طبيعيةٌ لا ينقصها سوى بناء الجدار.

          الرائي الذي يطلب من المواطنين أَن يسدِّدوا للدولة بدَلَ خدماتٍ لا تقوم بها، ولا يتنبَّه مِن أَول الموسِم إِلى المتوقَّع في الموسِم من أَخطار تُطَنْطِنُ بها أَجهزة الإعلام فيهلعُ منها المواطنون ولا يَهرَع إِليها المسؤُولون.

          الرائي الذي يَترك المياه تَذهب هدراً على الطرقات وفي الوديان وإِلى البحر شتاءً، فإِذا أَتى الصيف ولم تكن كافيةً مستمطراتُ الشتاء طرحَ الصوت على الدول وأَعلن حالةَ طوارئَ مائية وهو يبكي ويَشُجُّ شَعرَه أَسفاً والعالَـمُ يسخَر منه لقلّة رؤْيته وعقْم تفكيره المسبَق في الاستدراك والتكهُّن والاحتراز والتقدير والاحتياط والتأَهُّب والتحَسُّب والترَصُّد قبل وقوع الكارثة.

          لبنان بلد المياه… ويَشتري اللبناني المياه؟؟؟ ومحسوبٌ علينا أَنَّ عندَنا في الحُكْم مَسؤُولين مَسؤولون؟