هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

أزرار- الحلقة 850
… وإِسمي يـنـمـحـى
السبت 12 تموز 2014

 

        في منطق المفكِّرات والمذكَّرات والمحفوظات وإِحياءات الذكْر والذكرى والتذكار والاستذكار: الإِبقاءُ على الذاكرة في الزمان.

          وهي إِجمالاً ذاكرةٌ شخصية أَو جَـماعية أَو وطنية أَو عالـمية لأَحداثٍ أَو أَشخاصٍ أَو معالـمَ أَو علامات.

          إنه منطق “الأَرشَـﭭَـة” بالوسائل والوسائط المادية وغير المادية: هنا مخطوطة، هناك متحف، هنالك تراث شفويّ، …

          ومن حفْظ الذاكرة إِلى الحفاظ عليها: جَـمْعاً، تسجيلاً، تدويناً، … حرصاً على إِبقائها في أَفضل الظروف والإِحاطة، خوفاً من غَرَق الذاكرة في النسيان، في العدم، في الامّـحاء، في الموت الكثير.

          ومن شاء مَـحْـوَ الذاكرة سهلٌ عليه إِتلافُ كلّ أَثَر للحدث أَو الشخص أَو الصورة، فتموت الذاكرة وتنطفئُ شُعلة التذكار.

          هكذا بقيَت الذاكرةُ سنواتٍ وعُقوداً وقروناً في الحفْظ والصَون، حتى… جاءَت شبكة الإِنترنت فانتقلَت الذاكرة من العالَـم الـماديّ الـمحدود مهما اتَّسع، إِلى العالَـم الافتراضي غير الـماديّ وغير الـمحدود.

          وإِذا الأَوّل قابلُ التحكُّم به مَـحواً وإِلغاءً وإِتلافاً وإِعداماً من المكان والزمان، فالعالَـم الأَخير منفلِتٌ من كلّ رقابةٍ وسيطرةٍ وتَـحَكُّم: ما إِن تصدر الـمعلومة على الشاشة الافتراضية في شبكة الإِنترنت حتى تُصبح مُلْكاً لجميع الناس يدخلون عليها متى شاؤُوا، يضيفون إِليها ما شاؤُوا، يتصرّفون بها كيفما شاؤُوا، فتبقى ثابتةً محفورةً في الذاكرة الرقمية لا إِلى امّـحاء.

          يكفيك سؤَالُ مُـحرّك البحث (غوغل مثلاً أَو سواه) عن اسم أَو حدَث أَو كلمة أَو صورة حتى تنفلش على الشاشة أَمامك مَواقعُ ومراجعُ ومصادرُ وإِحالاتٌ وروابطُ أُخرى إِلكترونية تأْخذك إِلى تفصيل التفصيل عما سأَلت: نصوصاً وأَرقاماً وصُوَراً ومعلوماتٍ لا تحصى، ولا قدرة ولا طاقة ولا حتى حقّ لأَحد في محوها عن وجه الشاشة أَو من قلب محرك البحث.

          أَمام هذا الواقع الخطير الخارج عن السيطرة، كان لا بدّ من تشريع قانوني لاستعادة حقّ التحكم بهذا الشلاّل الهائل من المعلومات يتدفّق أَمام زائر الموقع أَو الشبكة العنكبوتية.

          هذا التشريع الـمُسمّى حديثاً “الحقُّ في النسيان الرقمي” بدأَت دولٌ تستصدرهُ قوانينَ تتيح، لكلّ مَن يرغب، أَن يمحو عن الشاشة ومن مُحرّك البحث أَيَّ معلومة تؤْذيه أَو فات موعدُها أَو صدرَت عنه مغلوطة في الحفْظ الإِلكتروني، مثلما يُمكنُه محوُها بسهولةٍ من الحفْظ المادي.

          هكذا: ما كان خوفاً من النسيان وحرصاً على حفظه في الذاكرة، بات اليوم مَطْلباً مُلِحّاً لـحذْفِه خوف فضْحِ الذاكرةِ صاحبَها.

          وهكذا يصبح الـمحو السيبرنتي حقاً مشروعاً لصرخة “انسُوني” عوض “احفظوني”، ولرغبة “إسمي ينمحى” عوض “تسجيل اسمي في ذاكرة الزمن”.