هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

افتتاح مركز عبدالله غانم الثقافي
بسكنتا- 14/8/2011

كلمة الشاعر هنري زغيب

عَجِبْتُ لكَ: في ضئيلٍ من السنوات العجلى، كنتَ كثيراً ناجعاً في فرد، جَمعاً نافعاً في مفرد، شاعراً من جذع الكبار في الريادة، ناثراً لا يشوب نفَسَكَ ثرثرة، ومعلّمَ أجيالٍ من قلبك قبل صوتك، فلم يُؤخِّرك انشغال، ولا شدَّك صوب الهدوء تكاسُل، حتى إذا رحلْتَ إلى الغياب بعد غياب الشمس الحادية والثلاثين من تموز 1959، كانت بعدُ في أدراجِكَ أوراقٌ كثيرةٌ فاجَأْتَها بالغياب وهي كاملةُ الحضور حَدَّ رفيقاتها الْـ حظيْنَ بنعمة المطبعة.

*

وعَجِبْتُ منكَ: وانشغالاتُك الكتابية والمهنية أوسعُ من وقتِك، كيف كنتَ تشقُّ الوقت لتكون أباً راعياً أولادَكَ الثمانية، تُوَشّيهم بالأُبوّة والحنان، ساهراً على صباحاتهم المعرفية. ولم تشغلْك الكتاباتُ عن حضورك في بسكنتا حيثما يجب، وكيفما يجب، وكلّما يجب، فعقَدْتَ مع جارك ميخائيل نعيمة صداقةً تَمتدُّ من طرَف القلم إلى طرف أقنية المياه في بساتين بسكنتا. حبَّك الكثير كانت بسكنتا بِموقعِها ومَطلاتها ووِهادها وعَلْواتِها ومُناخها وجمال طبيعتها الشاعرة، فلم تغادرْها يوماً ولا غادَرَتْكَ سطراً. ما أُحَيلاكُما: هي أهدتْكَ “يَمامتَك”، جارةً فحبيبةً فزوجةً فأُمّ أولادك. كانت هي “ميّ” قصائدِك، وكنتَ أنتَ شاعرها في كلّ فِلْذة من قصيدة، وكلّ نَهْدَة من نَثيرة! فما أجملَ قصةَ حُبٍّ تَزَنْبَقَتْ بين شبّاكك وشبّاكها، قبالة هذه التلّة في ضهر الحصَين، مَرْبَعِ أحلامِك الوِساع، وقصائِدِكَ المطيَّبة، وهواءُ حُبِّك يأْرج بأجمل الهوى:

مش فايقه لِمّن تلاقَينا ســوا             وما كان شايفْنا حَـدا بْضَهر الحصَين؟

هون اشلحيني هون حدّ الوِكر           بْـ”ضهر الحصين” ملفى الخيال والشِعر

عندي زهور من هون  للوادي          لا تـتـعْـبي قلبِــك  بِـباقة زهر

*

وعَجِبْتُ لديكَ: تتنقّل بين أبياتِك، فصحاها الأنقى، ومَحكيِّها الأرقى، وفي كلتيهما مناخُ بسكنتا الضيعة، وبسكنتا الوطن، وبسكنتا الدنيا، حتى إذا ضاقَت بِكَ الكلماتُ بَسْكَنْتَهَا شِعراً وعندليباً وضهر حصين. ودانَ لك الشعرُ، دانَ، فتلاعبْتَ بأوزانه عازفَ بُحورٍ طوَّعْتَها فَجَدَّدْتَ قبل سواك، وَنَوَّعْتَ فيها فَلَوَّنتَها قبل سواك، وإذا “العندليب” و”ضباب” و”فوق الضباب”، عماراتٌ شعريةٌ عالية، هي في إرثنا اللبناني جبينٌ تُشرِق منه شمسُ الجديد.

*

وعَجِبْتُ إليكَ: وأنت في عَلْوَة هذا المنأى البسكنتاويّ، تُصدر جريدة “صنين” ومجلة “الدهر”، تَمُدُّهُما بثمارِ حِبْرِك، ولا مطبعةَ هنا ولا مواصلاتٍ سهلةً للتنقُّل، والثلجُ العالي في بسكنتا يقطع الطرقات والمواصلات أَسابيعَ مطّاطة، فتحملُ موادَّ مطبوعَتَيك كلّ مرة إلى بيت شباب، تسهر على تنضيدهما حرفاً حرفاً، وعلى إخراجهما صفحةً صفحة، وطباعتهما عدداً عدداً، وتعودُ بِهما إلى هنا، تَكتب أسماء المشتركين، وتحمل الكُلَّ إلى البريد، كي تذهب الأعدادُ دورياً إلى قرّائك في لبنان وعالم الانتشار اللبناني الواسع.

*

وعَجِبْتُ منكَ:  تَنبضُ حاراً في افتتاحياتك والمقالات، كتاباتٍ ناريةً ساطعة، تعالج مواضيع الساعة في أُسلوبٍ لا يرحَم التواءً ولا يتغافل عن خطأ، في ثورةٍ حيناً وفي نُصحٍ غيرَ حين، في جرأةٍ حيناً وفي حكمةٍ غيرَ حين، أفكاراً طليعيةً في زمانها، وشحناتِ ثقافةٍ ومعلوماتٍ، عجباً كيف كانت ترقى إليكَ وأنتَ هنا وسْط هذه السُّكنى شبهِ الصومعيّة في الثُّلْث الأول من القرن الماضي.

*

وعَجِبْتُ بكَ: تُنَوِّعُ في الكتابات، بين مسرحٍ وميتولوجيا ونقدٍ وترجمةٍ عن الآداب القديمة، وأساطيرَ ملأْتَ بِها كتابك “الأجيال”، وقصصاً طَرَّزْتَ بها كتابَك “جبل النسُّاك”، ومواقفَ أدبيةٍ صَوَّتَّها في أحاديثك الإذاعية الكثيرة. وفي جميعها شحناتٌ ثقافيةٌ ثَرِيّة، وأنتَ تثقَّفْت على ذاتك، وصقَلْتَ ثقافتَكَ وحدَك، ورُحتَ تَنْثُرُها في مقالاتك بَحراً من علْم ومعرفةٍ لا يؤتى إلاّ من أمضَوا سنواتٍ أكاديميةً على مقاعد المدارس فالجامعات.

*

لهذه جميعِها، عجِبتُ لكَ، وعجِبتُ منكَ، وعجِبتُ لديكَ، وعجِبتُ إليكَ، وعجِبتُ بك: كيف كنتَ كثيراً ناجعاً في فرد، وجَمْعاً نافعاً في مفرد.

لكأنما سرُّ العطاء أن يكون للموهوب موهِبةٌ أُمٌّ هي معرفةُ ابتداعِ وقتٍ خارجَ الوقت، يشتَقُّه من مدىً مستقطَعٍ، سِواه يَملأه بالهدْر، وهو يُخصبُ الوقتَ نبْضاً قَمْحَوياً يُزهر إبداعاً، ويُثْمر آثاراً تبقى بعده بعدما يُغمض عينيه عن هذا العالم.

يا شاعر “العندليب”، أستدينُك أَمامي مرآةَ افتكار: أنتَ رحلتَ في الرابعة والستّين، وأَنا أبلُغُها بعد بضعةٍ وعام. فهل عطائي على بيدر العمر شارفَ غلالَ عطائك؟

لعلّه، أو ربما لم.

علامةُ الكبار: لا أن نتشبَّه بهم بل أن نتمرّى بهم، فإما نرفعُ جبينَنا أن قاربناهم وفي يدنا جَمعَةُ قمح، أو نَخجل من تقصيرنا حَيالهم بأنْ طوَينا عُمرنا هدْراً ولا غلال.

يومها، يا أبا “العندليب”، بعدَ بضْعٍ وسَنة، سأوافيك إلى هنا، أَحمل في كفّيَّ جَمعةَ قمحي، فَتَلُومُني على ضآلتها، أو تصافحُني وتَرُشُّها على أرض خصيبة تَتَسَنْبَلُ فيها تيجاناً تُذَهِّبُها الشمسُ أغماراً صالحةً للحصاد الآتي.