هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

مؤْتمر “الأُمَّة، الهُوِيَّة، الثقافة في الشَّرق والغرب”
جامعة هايدلبُرغ – أَلمانيا
4 – 7 تموز 2013

جبران: ما أَرقى إِنسانَهُ… ما أَسمى إِنسانيَّته !

مداخلتي في مؤْتمر “الأُمَّة، الهُوِيَّة، الثقافة في الشَّرق والغرب”

جامعة هايدلبُرغ – أَلمانيا (4 – 7 تموز 2013)

 Lisant une citation de Gibran

          في عالمٍ يتيه شَرقُهُ والغربُ بين صراعاتٍ سياسيةٍ ودينيةٍ ومذهبيةٍ وطائفيةٍ وتوسُّعيةٍ وعسكرية،

          في عالمٍ تُبنى له التحالفات على مستوى الحكَّام بين تشديد الخصومات وتمديد الاتفاقات لمصلحة الدُّوَل لا لخير الشعوب،

          في عالمٍ يتقدَّم العلْمُ معه خطواتٍ سِراعاً صوبَ غَزْوِ الكواكب فيما على الأَرض لا يزال الشرُّ أُفعواناً يتحفَّز للنُّشوب،

          في هذا العالم الذي لا تزال الروح ترى إِليه أَن تقدِّمَ روحانيات طاهرة فداءَ ماديات قاهرة،

          … يكونُ أَنْ لا بُدَّ من جبرانٍ يرفع الصوت سوطاً على تجّار الهيكل، ضماداً لجراح النفس وغذاءً لعطش القلوب.

          فلا أَبلغَ منه في معالجة ثالوث هذا المؤتمر: “الأُمَّة، الهُويَّة، الثقافة”، ولا أَسطعَ منه في مَدِّ ذِراعَيْه شرقاً وغرباً وجمعِهِما معاً في إِنسانٍ واحدٍ لعالَـمٍ واحدٍ، لا تَخشى فيه أَقلياتٌ من أَكثريات، بل يغمرُهُ توقٌ نبيلٌ إِلى الوحدة عبر التكامل.

* * *

          كأَنه يختصر الظلمة بومضة، والظلام بحكمة، والظلامة بمرهم قول، فتنفتح له القلوبُ اطِّلاباً لـمزيد، وتتوالى كتُبُهُ طبعةً فطبعةً من جيل إِلى جيل.

ندخل بستانَه النضير ونقطف من أَزهاره كلماتٍ تُداوي شر الخصام بخير الوئام في تَسْآلٍ نقيّ:

“أَنتَ أَخي، وكلانا ابنُ دِينٍ واحدٍ: هو الرُّوحُ الكلي.

أَنتَ رَفيقي على طريق الحياة وأَنا أُحِبُّكَ. فلماذا تُخاصِمُني؟

أَنتَ أَخي وأَنا أُحِبُّكَ: ساجداً في جامعِك، راكعاً في هيكلِك، مُصلِّياً في كنيستِك.

أَنتَ أَخي وأَنا أُحِبُّكَ لمحبةِ حقيقتِكَ التي ستلتقي بحقيقتي في العالَم الآتي.

أَنتَ أَخي وأَنا أُحِبُّكَ… والمحبةُ هي العدْلُ بأَسمى ظَواهره”.

بهذا يختصرُ جبران ثلاثيّة “الأُمَّة، الهُويَّة، الثقافة” ويفتح الأُفقَ لمستقبل أَقَلِّياتٍ وأَكثرياتٍ بـمعادلة “الوِحدَة في التكامُل”.

          وبهذا يدعو إِلى عَلاقةٍ تنسج الوحدة بين التيارات الفلسفية والروحانية شرقاً وغرباً.

          وِحدةٌ نَسَجها جبران للمستقبل غذاءً، للحاضر دواءً، وللماضي عزاءً.

          مسيحُ الإِنجيل ومحمَّدُ القرآن يتعانقان في كتابات جبران صوبَ تَطَلُّعٍ واحدٍ إِلى “فَوقٍ” واحد: إِله الكَون الواحِد الموحَّد.

          بذلك أَنشأَ جبران ثالوث “الحُبّ/الحرية/السعادة” فكان رسولَ الخُلُقية الفلسفية والدينية، رائداً في نشر ثقافة المساواة والأُخُوَّة في كُلّ شرقٍ وكُلّ غرب، في كل زَمَن وكل وَطَن.

          من هنا أَنه:

لم يتحدَّثْ عن دِينٍ بل عن الدِّين الذي يوحِّد بين العقول والقلوب والبلدان.

          لم يتحدَّثْ عن وطنٍ بل عن الوطن الذي يضُمُّ تحت سمائه الإِنسان من أَيّ لون وعِرْق ودِين.

          لم يُخاطبْ إِنساناً في مكانٍ وزمان بل خاطبَ الإِنسانَ في كلّ مكانٍ وزمان.

          لم يتنكَّر للشرق الذي منه جاء، ولا استزلم إِلى الغرب الذي فيه حَلّ، بل جمع روحانيّة الشرق إِلى مادِّيَّة الغرب وخرجَ بصيغةٍ ضمَّت شَساعة الأَرض إِلى وساعة السماء، فإِذا إِنسانُه مواطنٌ عالَـميٌّ واحد، في وجودٍ واحد، ووطنٍ واحد، وإِلهٍ واحد، ودِينٍ واحد، فإِذا وِحدةُ الوجودِ أُمُّ الإِنسانية، وإِذا الخالقُ الواحدُ أَبُوها، فَلِمَ يَختلفُ مَنْ هو هُنا مَعَ مَنْ هُو هُناك، وكلاهما يَعيشُ على أَرضٍ واحدةٍ يَسكُنُها الإِنسان، وتحت سماءٍ واحدةٍ يَسكُنُها رَبٌّ واحدٌ لهذا الإِنسان؟؟

          كان الإِنسان مرناه. الإِنسانُ في كلّ مكان وكلّ زمان.

هكذا طرّز كتاباته بالحنين للعودة إِلى البكارة الأُمّ، إِلى اليُنبوع الأَوّل، إِلى دِفْءِ الإِنسان، فبلغَت كتاباتُهُ قُـرّاءَ العربية نسمةً من يقظةٍ على القلب العاطف، وقُـرّاءَ الإِنكليزية نسمةً من شعورٍ حين وَعَوا عليه وَعَوا حقيقةَ أَنّ مادِّيَّتَهم لا تنقلهم إِلى عطف القلب بل إِلى رزانة العقل وحدها. وحين أَقبلوا على كتاباته انفتحوا على فضاءاتٍ في ذواتهم كشفَتْها لهم كتاباتُه. وهذا ما يفسِّــر تَتَالي طبعات كتابه سنةً بعد سنةٍ وجيلاً بعد جيلٍ، لا يغمُرُها مرورُ زمَن بل يَزيدها توَهُّجاً في وعْيِ كلّ جيل.

“كلانا ابنُ روحٍ واحدٍ قُدُّوس

أَنت شبيهي وكلانا سجينُ جسدٍ مجبولٍ من طينة واحدة.

رفيقي أَنتَ على دروب الحياة، ومُسعِفي في إِدراك الحقيقة المستترة وراءَ الغيوم”.

بهذا النداء يخاطبُ أَخاه القريبَ والبعيد، مواطنَهُ هُنا وهُناك وفي كلّ هُنا وهُناك، جيلَه في زمانه وكلّ زمان آتٍ، ففي كُنْهِ الإِنسان طاقةُ حبٍّ وجمالٍ لا وقتَ للوقت فيها ولا موضعَ للمكان ولا حسابَ لـمُرور الزمن، بل شَعَّةٌ واحدةٌ لأَبَدٍ يَبدأُ الآن ولا ينتهي له بدءٌ ولا كيانٌ فهو من سُحُب الرُّوحِ التي لا يَشُحُّ منها مطرُ المحبّة والوئام.

لذا يفجعُهُ التقاتلُ على الأَرض من أَجل رُبح السماء فلا السماءُ ستَنفتحُ للمتقاتلينَ ولا الأَرض ستعودُ مكاناً للمنتصرين على دماءِ المهزومين.

ها هو يواصلُ النداء:

“لـماذا يا أَخي تُحاول إِخضاعي إِرضاءً لأَئمّةٍ يَطلبون المجد بِقَولِكَ أَنت والمسرَّة بمتاعبكَ أَنت؟

لماذا تَترك زوجتكَ وصغارَكَ وتَتْبَع الموت لأَجل قادةٍ يبتاعون المَعالي بدمائكَ أَنتَ ودماءِ إِخوتك،

ويبتاعون الشرَفَ الرفيع بأَحزان والدتكَ؟

أَمِنَ الشرف الرفيع أَن يَصرَعَ الإِنسانُ أَخاه لإِرضاء قادة قَومه؟

يا أَخي: رأَيتُ الطامعين يُحَبِّبون إِليكَ بَذْلَ الذات تَوَصُّلاً إِلى الفتكِ برقابِ إِخوانكَ.

حُبُّ البقاء عندهُم يُرسلُكَ إِلى الاعتداءِ على حقوق الغير،

وأَنا أَقول لكَ إِنّ المحافظة على حُقوق الغير أَشرفُ مآتي الانسان”.

إِنّ في ندائه هَزَّةَ ضميرٍ إِلى زُعماء وقادةٍ يُرسلون أَزلامهم وَقوداً يقتَتِلون في أَرض السوى لأَجْل نُصْرةِ القادة والزُّعماء!

وإِنّ في ندائه هزَّةَ وَعْيٍ لأَزلام ببَّغاويين ينقادون إِلى أَوامر زعمائهم فيهرعُون إِلى الموت كي يعيشَ زعماؤُهم، إِلى الموت كي يتسلَّطَ زعماؤُعم، إِلى الاقتتال كي يتعايَشَ زعماؤُهم، إِلى احتلال أَرض السوى كي يتوسَّعَ زعماؤُهم، إِلى الانصياع الأَعمى كي يُرضُوا زعماءَهم، إِلى الاستشهاد كي يحيا زعماؤُهم، فإِذا بالأَبناءِ يعود في النُّعوش إِلى أُمهاتهم مصحوبةً برضى الزعماء أَرسلوا معها كلماتِ رثاءٍ لفظيٍّ مفرغَةً من كلّ حزن وعاطفة.

بهذا النداء الصارخ الغاضب الثائر يلغي جبران مسافاتٍ ومساحاتٍ بين الحدودِ والأَراضي والبلدان والشعوب والأَزمنة والأَمكنة، ليبشِّر بإِنسانٍ واحدٍ في كل حَدٍّ وكلّ مسافةٍ وكلّ مساحةٍ وكلّ أَرضٍ وكلّ بلادٍ وكلّ شعبٍ وكلّ مكانٍ وكلّ مكان.

وإِذ يرى في بعض الاقتتال دافعاً دينياً، يرفض هذا الاقتتال طالَـما الدينُ موحِّدٌ واللهُ واحدٌ والكونُ واحد.

Introduction de mon papier

لذا قلتُ في مطلع حديثي إِنّ مسيح الإِنجيل ومحمَّدَ القرآن يتعانقان في كتابات جبران صوبَ تَطَلُّعٍ واحدٍ إِلى “فَوقٍ” واحد: إِلهِ الكَون الواحِد الموحَّد، فلا هو يُنكِر أَرضه الأُمَّ ولا الأَرض التي استوطنَها أُمّاً، ولا يُنكِر دينَه ولا دينَ السوى بل يُنكِر كلَّ بطش ينكّل رجالُه بشعبِه وبأَرضه، وكلَّ دينٍ ينكّل رجالُه بِدِينه وبِدِين السّوى.

نصغي إِليه:

 

“أَنا لبنانيٌّ ولي فخرٌ بذلك، ولستُ عثمانياً ولي فخرٌ بذلك أَيضاً.

لي وطنٌ أَعتزُّ بمحاسنه وأُمةٌ أَتباهى بمآتيها.

أَنا شرقيٌّ ولي فخرٌ بذلك، ومهما أَقصتْني الأَيامُ عن بلادي أَظلُّ شرقيَّ الأَخلاق لبنانيَّ العواطف.

أَنا شرقيٌّ وللشرقِ مدينةٌ قديمةُ العهد ذاتُ هَـيْـبَـةٍ سحريةٍ ونكهة طيّبة،

ومهما أُعجَبُ برُقِيّ الغربيين ومعارفهم يبقى الشرقُ موطنَ أَحلامي ومسرحَ أَمانيَّ وآمالي.

أَنا مسيحيٌّ ولي فخر بذلك، ولكنني أَهوى النبيَّ العربيَّ وأُكْبِر اسمَه، وأُحبُّ مجد الإِسلام.

أَنا أُجِلُّ القراَن ولكنني أَزدري مَنْ يَتَّخذُ القراَن وسيلةً لإِحباط مساعي المُسْلمين،

مثلما أَزدري الذين يتَّخذون الإِنجيلَ وسيلةً للتحَكُّم بِرِقاب المسيحيين.

أَنا أَكرهُ الدولة العثمانية لأَني أُحبُّ الإِسلام وعظمةَ الإِسلام ومجدَ الإِسلام .

خُذُوها يا مسلمون كلمةً من مسيحيٍّ أَسكَنَ يسوعَ في شطْرٍ من حشاشته ومحمداً في الشطر الآخر”.

وبعد…

بهذا الكلام الرؤْيويّ، يرفض جبران أَن يقتتل شعبٌ وشعبٌ من أَجل دينٍ أَو مذهبٍ أَو طائفة.

حتى في مسيحيَّته لم يكن جبران مسيحياً بالمعنى المتعصِّب المتزَمِّت الضيّق الشوﭬـينيّ بل كان مسيحُه شاملاً شُمولياً لأَجل خير الإِنسان لا سبباً للاقتتال والتشاحُن والتغاضُب والحُروب وقَتْل الإِنسان أَخاه الإِنسان من أَجل دينٍ ومذهبٍ وطائفة:

نَعود إِليه من جديدٍ ونُصغي إِليه:

“منذ تسعةَ عشرَ جيلاً والبشرُ يَعبُدُون الضَّعف في شخص يسوع،

ويسوعُ كان قوياً لكنهم لا يفهمون معنى القوّة الحقيقية.

ما عاش يسوعُ مسكيناً خائفاً، ولم يَمُت شاكياً متوجعاً، بل عاش ثائراً وصُلِبَ متمرِّداً ومات جبَّاراً.

لم يكن يسوعُ طائراً مكسورَ الجناحَين، بل كان عاصفةً هوجاء تكسر بهبوبها جميعَ الأَجنحة المُعْوَجّة.

لم يهبِط يسوعُ من دائرة النور الأَعلى ليهدُمَ المنازلَ ويَبني من حجارتها أَدْيرة وصوامع

ولا ليستهوي رجالاً أَشدّاءَ ينقادون لقسوسٍ ورهبان،

بل جاء يبُثّ في فضاء هذا العالم رُوحاً جديدة قويةً تقوّض قوائم العروش المرفوعة على الجماجم

وتهدِمُ القصورَ المتعالية فوق القبور، وتسحَقُ الأَصنام المنصوبة على أَجساد الضعفاء المساكين.

لم يخَفْ يسوعُ مضطهديه ولم يَخْشَ أَعداءه، ولم يتوجَّع أَمام قاتليه،

بل كان حُراً جريئاً أَمام الظُّلْم والاستبداد

يَرى البُثور الكريهة فيَبْضَعُها،

ويَسمعُ الشَّرَّ متكلِّماً فيُخْرِسُه،

ويَلقى الرياءَ فيَصْرَعُه.

لَم يَجِئْ يسوعُ من وراء الشفَق الأَزرق ليَجعلَ الأَلمَ رمزاً للحياة بل جاء ليجعلَ الحياةَ رمزاً للحق والحرية”.

هذا هو مسيحُ جبران، وهذا هو محمَّدُ جبران، وهذا هو عالَـمُ جبران ذو الجناحين: الحقّ والحرية.

بهذه الشمولية الإِنسانية أَعلى فكرَهُ الإِنساني فوق الأَوطان وفوق الأَديان وفوق الأَزمان، وراح يَبذُر ضوء الوحدة في كلّ ركن من أَركان فكرِهِ فإِذا نتاجُهُ توفيقيٌّ بين مصالح متضاربة وفئات وأَنظمة عقائدية متنازعة. لذا يجمُل النظر إِليه لا على أَنه “جبران لبنان” وحسْب بل نَصيرُ وعْيٍ عالَـميٍّ تتردّد أَصداؤُه في كلّ العالم حيثُما تَصدر كتبُه في لغات العالم، فتتعزّز أَواصر المصالح المشتركة والتآخي والتفاهم بين الدول، وهنا رمزية الأَشجار في كتاباته عند ذكْرِه انحناءَ غصنٍ في شجرة الأُمم قليلاً وارتفاعَ آخرَ قليلاً من أَجل تَوَاصُلِهِما ضمن روح الصَّراحة والحقيقة والسلام.

لم يكن فيلسوفاً، ولا هو ادَّعى.

ولم يكُن مُبَشِّراً، ولا هو ادَّعى.

          شاعراً كان، وهو استَكان وَوَعى.

ولعلَّه، أَكثرَ من أَيّ شاعرٍ أَو أَديبٍ آخرَ في القرن العشرين، سهَّل الصعوبةَ في توطيد الوحدة بين ثقافاتٍ وتقاليدَ ولغاتٍ وتيّارات شديدة التباين. قد يبدو غيرَ منطقيٍّ أَن ينجح أَديبٌ واحدٌ في أَعماله بالتوفيق بين تأْثيرات فكرية شملَت بتنوُّعها الرسالتَين المسيحية والإِسلامية، والشعراءَ الرومنسيين، والمحيطَ الفنيَّ في ﭘـاريس ونيويورك. لكنّ جبران نجَحَ في رسْم رؤيةٍ توحيديةٍ قادرةٍ على ضَمّ العالَـمِ بقُطْبيَه، وضمانِ حقوق الإِنسان واحترامِها، وهي رؤيةٌ قادرةٌ على تَخليص شعوب العالم من ويلات الجفاء والنّزاع، رؤْيةٌ تردّدَت أَصداؤُها بين شعوب العالم على اختلاف ثقافتهم فأَجمعوا على تقدير فنّه. وهذه تحفته الخالدة “النبي” أَلهمَت الملايين وعلَّمَتْهم كيف يَعيشون حياتَهم بمحبّةٍ وكيف يقفون ضد الصدام بين الحضارات، فإِذا بجبران يُطوَّر وعياً فريداً كسر الحواجز بين الشرق والغرب ولا يزال يحتفظ بفعاليته حتى اليوم.

ورسالته في “النبي” تتجلّى دعوةً صادقةً إِلى الإِيمان بالقوّة الخيّرة، إِلى المحبة الإِنسانية، إِلى مبدإِ وحدة الوجود. ولعلّه أَخذ نظرته الصوفيّة عن متصوّفين سبَقوه فأَكّد أَنّ الحُبّ أَساسُ كلّ شيء: إِذا دخلَ النفسَ الإِنسانيةَ جرَّدها من الجشع والطمع والغطرسة والعبُودية للتقاليد، وسما بها إِلى رحاب الله الواسعة.

ها هو ينطلق من الحُب بين قلبَين، إِلى الحُب بين الناس، بلوغاً إِلى الحُب الناهد صوبَ قلب الله:

“حينَ الحبُّ يندَهُكُم، انقادوا إِليه ولو انّ دروبَه صعبةٌ وشائكة.

وحين يغمُرُكُم بِجناحَيه، استسلِموا إِليه ولو انّ بين ريش جناحيه سيفاً قد يَجرَحُكم.

وحين يُخاطبُكُم، آمِنُوا به ولو حطَّمَ صوتُه أَحلامَكم كما ريحُ الشمال تُهَشِّم الحديقة.

فهو حتى لو تَوَّجُكم، قد يَصْلُبُكم،

وحتى لو رعى نُمُوَّكم، قد يشَذِّبُكم،

وحتى لو بلَغَ أَعاليكم وداعبَ أَطْرى أَغصانِكم المرتعشة في الشمس،

قد ينحدر إِلى جذوركم يَهُزّها وهي في قلب التراب.

كما حُزَمُ القمح يَجمعُكم إِليه:

يَدْرُسُكم حتى يُعرّيكم فيغربلَكم من قشوركم،

يطحنُكم حتى أَنقى بياضكم،

يعجنُكم حتى أَقصى طواعيَّتكم،

ينتقِيكم إِلى ناره المطهِّرة،

ويُؤَهِّلكُم لتَكونوا خبزاً نقياً إِلى مائدة الإِله المقدسة”.

وهذا الإِيمانُ نفسه عادَ فاستعادَه في آخر كتبه “آلهة الأَرض”، وكان قبلُ جَسَّده أَثرًا عظيمًا في “يسوع ابن الإِنسان” كما في “التائه” (وهو وصيَّته إِلى الحياة)، وفي كلّ ذلك عكَسَ صورةَ الإِنسان العالَـميّ الكونـيّ العابرِ الحدودَ والآنيات.

وَلْأَختُمْ:

يَطول الغَوص على رؤْية جبران الشمولية الإِنسانية، ويبقى دوماً ما يقال، هو الْـقال الكثير وكتَب الكثير، وترك في كلّ ما قال وكتَب بصمةً لازمنيةً ليس يُلغيها حدَث ولا حديث.

بهذه الشمولية يكون جبران نموذجَ العلاج الأَنجع لِـمسائل الأَقلّيات والأَكثريات في العالم، ولـمُعضلات التعايُش بعيداً عن التباغُض الهدّام والتناحُر القاتل بين الأَفراد والشعوب، وهي هذه نواةُ الوحدة في التكامل، موضوع هذا المؤتمر.

إِنها الوحدة الجامعةُ العصورَ النيِّرة من الزمن السحيق إِلى الزمن الـمُعاصر إِلى التواصل بين التيارات الفلسفية الفكرية شرقاً وغرباً، وهو ما قدَّمه جبران في نتاجه بالعربية والإِنكليزية معاً: منحُ الإِنسان، كلّ إِنسانٍ -من أَيّ عرْقٍ ودِينٍ ومَكان- خلقيّةً فلسفيةً للحياة ذاتَ ثالوث الحُبّ-الحريّة-السعادة، فكان رائدَ ثقافةٍ مواطنية في العالم، متصالحةٍ مع الآن والْـما بعد، ناثرةً بين الناس مبدأَ التعايُش والتعاوُن والتضامُن على قاعدة الـمُساواة والأُخوَّة، لا فرقَ عندها بين شرقٍ وغرب.

في كوكبٍ أَرضيٍّ واحدٍ جامعٍ الكُلَّ في تَطَلُّعٍ واحدٍ صَوب الهدف الأَسمى، رأَى جبران خلاصَ الإِنسان في الحُبّ والسعادة، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فلا بحرَ يفصِل ولا محيطَ يُـباعِد ولا يابسةَ تَقْطع الصِّلةَ بين الإِنسان وأَخيه الإِنسان في الطرَف الآخر أَنّـى يكُنْ هذا الطَّرَفَ وأَيّاً مَن كان فيه.

وهذا تَجسيدٌ فيلَنْتْروﭘـي جُبراني بليغٌ لعبارة أَرسطو: “أَنا إِنسانٌ، وليس غريباً فـيَّ كلُّ ما هو إِنسانيّ”.

وانطلاقاً من هذا الـمبدإِ عالج جبران حقوقَ الإِنسان بالمساواة الوحيدة والأُخوة الموحِّدة والمواطنية الواحدة في العالم، في عالم أُوتوﭘـّيٍّ جميلٍ كان لُبَّ نضالِ جبرانَ الفكريّ من أَوّل كلماته الرائدة إِلى آخر كلمةٍ أَطْلقَها نبيُّه المصطفى رسالةَ حُبٍّ إِنسانـيٍّ من جيلٍ إِلى جيلٍ.

غريبٌ هذا الجبران: نَـخَالُهُ دَخَلَ تاريخَ الأَدب العالَـميّ واحتلَّ منه مكانه الأَعلى وهَدَأَ، فإِذا به ما زالَ يواصلُ نسْجَ تاريخِه كأَنّه بيننا، كأَنّه لَـم يَغِبْ، كأَنّه لَـم يتوقّف عن كتابةٍ يَطلَع بها عنْه مَن يَرَونه لا يزالُ يُشرقُ كلَّ يومٍ في شمسٍ هنا أَو هناك أَو هنالك، بشارةَ أَنّ الـمُصطفى الذي عاد إِلى جزيرته في الشرق ما زال يُـحَدِّثُ كُلَّ أُورفليسٍ في كلّ زمان ومكان.

بهذه المعادلة الفريدة نَسَج فكرَه الإِنسانيّ الطليعيّ: من صَوت الإِنسان الفَرْد إِلى صدى الإِنسان الكَون.

فما أَرقى إِنسانَهُ… وما أَسمى إِنسانيَّته !