هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

صلاح ستيتيه: سَفَرٌ في غَرابة اللغة
الخميس 18 نيسان 2013

صلاح ستيتيه: سَفَرٌ في غَرابة اللغة

مُداخلتي في مؤتمرٍ أَدبيّ عن الشاعر صلاح ستيتيّه

قاعة محاضرات رئاسة الجامعة اللبنانية – محلّة المتحف

الخميس 18 نيسان 2013

          لَـــكان من الطبيعيّ أَن تكون كلمتي بالفرنسية عن شاعِر عَلَمٍ في الفرنسية.

          غير أَن موضوعي يتجاوزُ اللغة الواحدةَ إِلى كلّ لغة.

          فالشاعر ابنُ لغته لكنه سيّدٌ في أَسرار اللغة، كلّ لغة.

          لغةُ الشاعر ثوبٌ. شِعرُه هو الجسد.

          ومهما كان الثوبُ يبقى شكلاً، لَوناً، زيّاً فنتزياً يتغيَّر.

           يتهلهلُ الثوب ويبقى الجسد.

          الأَصل: “مَن” ذا يلبَس الثوب. والأَصل لا يتغير.

          الجسدُ، عارياً من الثوب، هُوَ هُوَ التحدّي أَمام جبل الزمان الجليديّ: أَن يذوبَ الجليدُ عن الجبل ويبقى الجسد.

          هذا هو السَّفَرُ في غرابة الكلمات.

           والكلماتُ، شرطها أَن يتولاَّها شاعرٌ مُتَمَكِّنٌ فتكون لغةٌ، وتكون غرابةٌ، ويكون شِعر.

***

صلاح ستيتيّه من هؤلاء الشعراء الذين يفاجِئُون، يباغِتُون، يُدهِشُون بِـخيمياءِ الكلمات، بِـــ”حَجَر الصبر”، فيُطْلِعون لغاتٍ في اللغة غيرَ مأْلوفةٍ بين الكلام المأْلوف.

في طليعة الأَسرار للإِدهاش الشعري: شُروقُ مَعنى المعنى على مَعنى مغاير، وضْعُ كلمةٍ في غير موضوعها المأْلوف وخَلْقُ بُعدٍ جديد لها في موضعها الجديد، مُجاوَرَةُ كلمتَين غيرُ مأْلوفٍ تَجاوُرُهما وخَلْقُ سِحْرٍ جديدٍ من جِوارهما وتزاوُجِهما، استعمالُ كلمةٍ بسيطةٍ بسيطةٍ حتى لَتَبدو ساذَجةً لكنَّ وضْعها في بيئةٍ مُغايرة يُطْلعُ منها معنىً عميقاً، صورةً ساطعة، استعارةً غريبةً على جمال.

وهذا هو السفَر في غرابة اللغة، في إِدهاشيَّة الكلمات.

هذا هو السفَر في لغات اللغة.

ليس الـمُهمَّ هنا الإِكثارُ من الاستشهادات في شعر صلاح ستيتيّه.

آخُذُ نَـموذجاً يُغْني. فالشاعر الساطعُ يسطعُ أَنّى وكيف وأَيّان.

في قصيدة L’eau froide gardéeالماءُ الباردُ مـحروساً” كتب صلاح ستيتيّه:

Je salue la jeunesse de la lumière
Sur ce pays de grande chasteté
Parce que ses femmes sont fermées

Elles ont des ailes croisées sur la poitrine
Pour protéger le cœur ardent des hommes
L’amour aux cils baissés l’a circoncis

“أُحيّي فُتُوّةَ النُّور

يَنهلُّ على هذا البلدِ البالغ العِفّة

لأَن نساءَه مغْلَقاتٌ

لَـهُنَّ على الصَّدر جَناحان مكَتَّفان

يحميان قلباً للرجال مضطرماً

خَتَنَهُ حبٌّ خافِضُ الـهُدبَين”.

          تَجاوُرُ كلمتَي “فُتُوَّة النُّور” معنىً غيرُ مأْلوفٍ خلَقَ فينا دهشة جمال. فالنورُ لا عُمرَ له صبيّاً أَو كهلاً، وهو لا يَشيخ ولا يَموت، بينما الفُتُوَّةُ مقدِّمةٌ للشيخوخة.

          القلبُ الذي “خَتَنَهُ الحُب” و”الحُبُّ الخافض الهدبين”: ليس مأْلوفاً أَن يكونَ الختانُ الـمَحسوسُ لـمَختونٍ غيرِ مـحسوس، كما ليس مأْلوفاً أَن يكون الهُدب لغيرِ مـحسوسٍ بل لـجُزءٍ من الجسد مَـحسوس.

***

          آخُذ نموذجاً ثانياً.

          في القصيدة نفسِها، كتب صلاح ستيتيّه:

Qui sauvera ce pays du martèlement
Des soldats qui s’avancent sous un triomphe

Pour arracher l’eau froide gardée — et la prendre ?

Rivière ma lumière

Douce déshabillée

Sur toi il y a le ciel qui est fort

C’est l’autre ciel : non pas le ciel d’éponge bleue

“من يُنقذُ هذه البلاد

من جَلْجَلةِ جنودٍ يتقدَّمون تحت لواء النصر

ليخطَفوا الماءَ الباردَ المحروس ويأْخذوه؟

أَيها النُّورُ النَّهرُ- يا نُــوري

أَيها العَذْبُ العاري

وفوقكَ سماءٌ صلبةٌ

هي السماءُ الأُخرى

لا تلك الإِسفنجةُ الزرقاء”.

          المعاني مُبهرَجةٌ تَنبجِس من الكلماتِ كأَنّها نافورةُ أَلوانٍ ولا ماء، كأَنّها قوسُ الغمام يُدندنُ من فرَح.

          نأْخذ: “خطْف الماء البارد”، نأْخذ “النُّور النَّهر”، نأْخذ “السماء الصَّلبة”، ونلاحظ زواج المحسوس باللامحسوس، فالخاطفُ يفترض محسوساً يخطَفُه: النُّورُ لامحسوسٌ والنَّهرُ محسوس، والصَّلابةُ صفةُ المحسوس فكيف تُنْعَتُ به السَّماء؟

          ونأْخذ السماء “إِسفنجة زرقاء”، فتُدهشنا الاستعارة، استعارةُ الإِسفنجةِ المحسوسة للسماءِ غيرِ المحسوسة، ومع ذلك تتقطَّرُ السماء مَطَراً، نِعَماً، أَلواناً، غيوماً، وبعدُ وبَعْد…، كما تتقطَّر الإِسفنجةُ ناضحةً بما فيها.

***

          آخذ بعدُ نموذجاً ثالثاً، وأَختُم.

          في قصيدة Chanson du mois d’aoûtأُغنيَّةُ شهر آب“، كتب صلاح ستيتيّه:

Tammouz à l’horizon meurt,
son sang bu par le crépuscule
en nocturne caverne. L’obscur
est civière d’ambulance noire.
Nuit qu’on dirait troupeau de femmes :
le kohl et les vêtures noires.
La nuit est tente.
La nuit est un jour en impasse.

“تـمّوز يَـموتُ في الأُفق

يَشرَبُ دمَه شَفَقُ الـمغيبِ في كهْفٍ لَيليٍّ أَلْيَل.

العتمةُ حَـمّالةُ إِسعافٍ سوداءُ.

الليل كأَنّه قطيعُ نساءٍ ذَوَاتِ كُحْلٍ وإِسكيمٍ أَسوَد.

الليلُ خيمة.

الليلُ… نَـهارٌ وَصَلَ إِلى طريقٍ مسدود”.

          نرى لامَـحسُوسَين متجاوِرَين: تموز والأُفق. وثلاثةَ لامحسوسات متجاورة: دم تموز، شفَق المغيب، الكهف الليليّ.

          ونرى استعارةً غريبةً وجديدةً زاوجَت بين محسوسٍ ولامحسوس: “العتمةُ حمّالةُ إِسعاف”.

          ونرى تشبيهاً غريباً يُباغِتُنا: “الليلُ قطيعُ نساء”.

          ونرى صورةً غريبةً ضبابيّة المعنى: كُحلُ النساء الأَسودُ، والإِسكيمُ الأَسود (الإِسكيم لباسُ الرهبان فقط دون الراهبات).

          ويعود الزواج يجاورُ محسوساً بلامحسوس: الليل (غير المحسوس) والخيمة (محسوسة).

          ثم يأْتي معنىً يباغتُ من جمالٍ وابتكار: “الليلُ… نَـهارٌ وَصَلَ إِلى طريقٍ مسدود”.

***

          هكذا، في كُلّ قصيدة، يأْخذنا صلاح ستيتيّه إِلى سفَرٍ في اللغة على أَجنحة الغرابة في رصف كلماته، مستخدماً أَيَّ آلةٍ لُغَوية، أَيَّ أَداةٍ بَلاغية، أَيَّ جُرأَةٍ بديعية، فيُطْلِعُ معنىً جديداً من كلامٍ قديم، وصورةً جديدةً من شكْل عتيق، ودهشةً جماليائيةً جديدةً هي الجوهرُ الأَساسُ في جماليا الشعر.

قُلتُ في مطلع كلمتي إِنّ “الشاعرَ ابنُ لغتِه لكنّه سيدٌ في أَسرار اللغة، كُلّ لغة”.

وهكذا الشِعرُ في أَيِّ لغة: لَقِيَّاتٌ من صُوَرٍ وكلماتٍ وتراكيبَ، من كلماتٍ تؤخَّرُ أَو تُقَدَّمُ عن مأْلوف وضْعها في الجملة فتخلُق رَنَّةً بلَّوريةً من موشورِ أَلوانٍ قُزَحيَّة جديدة.

ما به استشهدتُ من شِعر صلاح ستيتيه ضئيلٌ إِزاء وَسَاعة استعمالاته ولَقيّاته الشعرية الجديدة.

تَـمنَّيتُ أَكشِفُ بَعْد.

غير أَنّ وقتَ الـمِنبر لا يتيحُ أَكثر، لذا اكتفيتُ بإِضاءاتٍ قلَّةٍ تكفي لِوَمْضِ إِلْـماحٍ.

فالربيعُ تَـختصرُهُ وردة.

والحبُّ تَـختصرُهُ قُبْلة.

والشِعرُ العالي تَـختصرُهُ قصيدةٌ أَو فِلْذَةٌ من قصيدة.

والشاعرُ الشاعر يَـختصِرُ في ذاته مواكبَ شُعراء، ويَـختصِرُ في شعره عُصوراً من الشعر.

وهكذا صلاح ستيتيّه.