هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

نقطة على الحرف- الحلقة 1133
“… وخَـيـرُ جَليسٍ في الأَنام”
الأَربعاء 8 كانون الثاني 2014

          أَبْعَدُ من المخطوطات النادرة التي رمَّدَتْ في مكتبة “السائح” الطرابلسيّة: ما رمى إِليه المخرّبون من شرارتهم في إِنشاب النار.

          إِنه الفكرُ الأَقوى من أَن تُرمِّدَهُ نارٌ أَو تُبَدِّدَه بَراكين.

          الفكرُ الذي يَمضي في اختراق الوجدان والتاريخ ولو سقَط صاحبه. فالقلمُ في يد صاحبه أَبقى من أَن يَسقطَ صوتُه أَو يتخرسَنَ بسقوط صاحبه. قوةُ القلم بما يَخُطُّ على أَبيض الصفَحات كي يُـحْيي سُكونَها ولَو اغتيل سيِّدُ القلم إِلى مثوى السقوط.

          يوم أَحرَقَ علي بن يوسف بن تاشفين كتابَ حُجّة الإِسلام أَبي حامد الغزَّالي “إِحياء علوم الدين” ظنَّ أَن عمَلَ الرَّماد سيمحو فِعْلَ الكتاب، لكنّ فكرَ الغزَّالي استمر مُـخترقاً حُجُب التاريخ وهو اليوم من كبار فلاسفتنا الـمتنوِّرين.

          ويوم أَحرق الخليفة أَبو يوسف يعقوب الـمنصور كُتُبَ ابن رشد ظنَّ أَن احتراقها سيُنهي اختراقها، وها ابنُ رشد اليوم من أَئمَّة الفكْر الـمُتَنَور في التاريخ شرقِه وغربِه.

          وعندما الريحُ في ساحة قُرطُبَة ذَرَّت رمادَ كتب الغزّالي وابن رُشْد، لم يدرك مُـحرِقُوها أَنها نقلَت ذرّات فكرهما إِلى مَن سيُعيدونها إِلى الحياة أَقوى وأَبلغَ وأَسطع.

          تَـماماً كمَن توهَّـموا أَنّ اغتيال محمد شطَح سيُغْلق الـمَدى على عقله المتنوِّر وأَشعّة دماغه التي لا يخترقُها لِيزِر ولا يُطفئُها لَيل.

          تماماً كمَن ظنُّوا أَنّ تفجير جبران تويني سيُلغي تَـفَجُّرَ فكرِه الثوري، أَو انّ إِسقاطَ سمير قصير سيُسقِطُ صدى كلماته.

           إِنّ لبنان، منذ فجر التاريخ، هو فكْرٌ وحُريةٌ وإِبداع، وسيبقى فكراً وحريةً وإِبداعاً، وهذا معنى وجودِه. ومَن يُحاولون تفريغَه من معنى وجوده سيَفرَغون هم بسقوطهم على بابه خائرين خائبين مهما أَحرقوا مكتبةً هنا أَو اغتالوا مفكِّراً هناك أَو شَاغبوا في مؤَسسة تربوية هنالك، ولن تنفَعَهم نقطةُ ضعفه بتوتير الوتَر الطائفي، فستبقى في طرابلس ساحةُ “الله” تُخاصِر شارع مار مارون، وفي بيروت مآذنُ مسجد محمد الأَمين تُصَبِّح يومياً قُبَّة جارِها مار جرجس، وفجْرُ لبنان سيظلُّ يُشرقُ على أَبنائه البَرَرَة وأَجياله الطالعة ومُفَكّريه ومُبدعيه وشهدائِه المخْلصين، لأَنه وطنُ الإِنسان وأَرضُ الأَديان ورَصْعةُ الإِيمان.

هذه ميزتُه، وتلك خصوصيّـتُه الفريدة. وهكذا سيبقى جيلاً بَعد جيل!

حين أَمَرَ “فاتك الـمتسَلِّط” بإِطلاق النار على مدلج حتى سقَطَ على بَوّابة “جبال الصوَّان”، ظنَّ أَنه، بقَتْله، فَتَحَ ساحةَ البلاد لبطْشِه وسِلاحِـه.

لكنَّه سُرعان ما اكتشَفَ أَنْ… “خلف كلّ صخرَه، تحت كلّ شجره، بِفَيِّة كلّ بيت، رح يِـخْلَق وَلد لـمدلج”.