هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1124: أَين نحنُ مِن هذا الاحترام؟
الأَربعاء 6 تشرين الثاني 2013

          في مطلع 1940 كانت الجرافات تَهدرُ في ضاحيةٍ من موسكو شاقَّةً صخوراً وأَدغالاً أَمام عُمّالٍ يحفرون الأَرضَ كي يَمدّوا خطّ السكة الحديدية وفق تصميمٍ هندسيٍّ للخطّ ونقاطٍ تكون فيها محطات القطار.

          إِحدى المحطات تصدُف عند سَفحِ تلّةٍ يَسكن في أَعلاها الـمُؤَلِّفُ الموسيقيُّ ديمتري شوستاكوﭬـيتش. قدَّمَ اعتراضاً أَنّ المحطة بقطاراتها الـمُتلاحقة، تَوَقُّفاً وإِقلاعاً، ستُزعجُه بصفّاراتها وضَجيج ركابها. بلغَ الاعتراضُ مكتب ستالين، وكان يومَها في قمّة جبروته وديكتاتوريَّته الـمرعبة، وما كان شوستاكوﭬـيتش يأْمل أَن يوافق ستالين على اعتراضه.

          لكنه وافق!! وأَصدر أَمراً حازماً بتغيير خارطة السكّة الحديدية لعدم إِزعاج الـمؤَلّف الـموسيقيّ الْكان يومَها وجهاً ناصعاً من الإِبداع السوﭬـياتي. وأَكثر: في السنة التالية (1941) نال شوستاكوﭬـيتش عن أَعماله الـموسيقية جائزةَ ستالين، أَعلى تقديرٍ يومها في الاتحاد السوﭬـياتي.

***

          قبل أَيامٍ وَردَت إِلى إِدارة شُؤُون البيئة لدى مقاطعة فِينّْمَرْك في أَقصى شمال النّروج على حدود روسيا رسالةٌ من الـﭙـروفسُّورة كريستين يِنْسِين (أُستاذةِ علم النبات في جامعة ستاﭬـانغِر) تُنذِرُ فيها أَنّ جرّافاتٍ تشقُّ شبكةَ طرقٍ جديدةً في مدينة مِلْسْـﭭـيك بلغَتْ نقطةً ملأَى بالـ”ساكْسِيفْراغْ” وهي زهرةٌ بديعةٌ صفراءُ ذاتُ ساقٍ أَحمرَ تَنبُتُ في شقوق الصخور، مدْرَجةٌ على لائحة نباتاتٍ نادرةٍ مُهدَّدَةٍ بالانقراض، وهي تراثٌ طبيعيٌّ تتميَّز به النّروج.

          ولم يتأَخَّر حتى صدر القرار: وَقْفُ شَقّ الطريق في تلك الناحية، تغييرُ الخرائط إِلى ناحيةٍ أُخرى، وإِلغاءُ مشروعٍ بلغَت تكلفتُه تصميماً وتنفيذاً نحو 150 مليون دولار.

***

          هذا في الدُّوَل التي تَحترم الإِبداعَ وتحترم البيئة.

          أَين نحن من هذا الاحترام؟

          أَين احترامُ الإِبداع: وليس عندنا بَعدُ دارُ أُوﭘـرا وطنية، ولا مُتحفٌ وطنيٌّ للفنون التشكيلية، ولا مسرحٌ وطنيٌّ، ولا حتى بيتٌ للأُوركسترا الوطنية اللبنانية الفيلارمونية.

          أَين احترامُ البيئة: والكسّاراتُ تجتاح جبالَنا وتلالَنا، والجرّافاتُ تغتال غاباتِنا وحقولَنا، وتلالُ النّفايات تحتلّ نواصينا ونواحينا، والتلوُّثُ يُسمِّم هواءَنا وترابَنا ومياهَ بحرِنا ومياهَ شُربِنا، والجراثيمُ تُشارِكُنا صحونَنا وطَعامَنا وتَنَفُّسَنا؟

          أَين احترامُ الإِنسان: ولا يعرفُ الـمواطنُ اللبنانِـيُّ بعدُ متى يطمئنُّ إِلى الكهرباء والطرقات والأَمن والأَمان وسائرِ الحقوق التي يسعى إِليها يومياً، ويومياً لا يَزال ينتظرُ غودو عند محطة العمْر على رصيف اليأْس والقرَف والكُفران؟

          زهرةٌ صغيرةٌ جميلةٌ أَوقفَت مشروعاً بملايين الدولارات، وعندنا مشاريعُ كبيرةٌ تَهدُرُ ميزانياتٍ ضخمةً لكنها لا تصل إِلى نهاياتها السعيدة، مع أَنها هي أَيضاً تُكَلِّف الـمُكَلَّف اللبناني… ملايينَ الدولارات!