هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1117: لم نعد نريد “حكومة مصلحة وطنية”

الحلقة 1117: لم نعد نريد “حكومة مصلحة وطنية”
(الأَربعاء 18 أَيلول 2013)

سُئِل الحكيمُ الفارسيّ الوزير بُزُرْجِمَهْر: “كيف دالت دولةُ بني ساسان رغم ما كانت عليه من عظيم الشان”؟ فأَجاب: “دالت حين تولّى فيها صغارُ الرجال كبارَ الأَعمال”. وعلى هذه المقولة بنى خليل مطران آخرَ بيتٍ من قصيدته “مقتل بُزُرْجِمَهْر”:
“ما كانَت الحسناءُ ترفع سِتْرَها لو أَنَّ في هذي الجُموع رجالا”.
الأَمرُ إِذاً، كلُّ الأَمر، في الرجال، في قاماتٍ كبيرةٍ تكُون على حجم القرارات الكبيرة في القضايا المصيرية الكبيرة.
ولا أَرى اليومَ أَبلغَ من جواب بُزُرْجِمَهْر في وصف ما يَجري عندنا خصوصاً وفي معظم العالم عُموماً.
للقضايا الكبرى رجالٌ كبار. وللمصائر الكبرى قراراتُ الرجال الكبار. وللأَقدار المصيرية هيبةُ الرجال الكبار.
وحده الرجلُ الكبيرُ يقولُ الـ”لا” فيُخيفُ قومه ويُرعبُ خصومه، أَو يقول الـ”بلى” فتنْصاعُ له التحوُّلات.
ذاتَ يومٍ كاد جون كيندي يوقف عقْرب الزمن حين هدّد خروتشيڤ بوقْف صواريخ كوبا وإِلاّ… فتوقَّفَت صواريخ كوبا.
وذاتَ يومٍ سُئِلَ ونستون تشرشل لماذا لا يُمدِّد ولايةً ثانيةً في رئاسة مجلس الوزراء البريطاني، أَجاب” “لا” وذهب إِلى بيته قائلاً: “حين احتاجَتْني بلادي في هذه الحرب الصعبةِ لبَّيتُ نداء بلادي. اليوم انتهَت مهمَّتي، فَلْيَأْتِ بعدي مَن يتولى الرئاسة”.
وذاتَ يومٍ طلب شارل ديغول نسبةً معيّنة من الاستفتاء الشعبي ليجدِّدَ رئاستَه فرنسا، وحين لم ينَل تلك النسبةَ أَشاح عن كرسيّ الإِيليزيه وغادر إِلى بلدته “كولومبيه لي دوزيغليز” معتكِفاً مُشيحاً عن التعاطي بأُمور فرنسا التي نهَضَ بها من حضيض الحرب إِلى سماء السلام.
تلك مواقفُ كبيرةٌ في منعطفاتٍ تاريخيةٍ كبيرة سَجَّلَها رجال ذوو قاماتٍ تاريخيةٍ كبيرة.
فأَنّى لنا اليوم مثلُ هذه القامات في زمنٍ يحاصرُنا بالشلَل في لبنان الذي يَفرَغ يوماً بعد يوم من مؤَسساته ومفاصله؟
أَنّى لنا في المسؤوليات مَن يتنازل عن عناد، أَو يفاوض على مبدأ، أَو يرضى بالجلوس إِلى حوار، أَو يُحوِّل في قناعة، أَو يُبدي ليونةً في قرار، من أَجل الصالح العام والوطن العام والمستقبل العام.
ستةُ أَشهر مضَت من عمرنا ونحن ننتظر تشكيلَ حكومة، وكلُّ مسؤول يتنطَّح مطالباً بتشكيل الحكومة، وفي كلّ تصريح لا ينسى أَن ينادي بتشكيل حكومة، ويَخترع مبادرةً لتشكيل حكومة، ويطفئُ أَو يُدير محركاته لتشكيل حكومة، وعند مشاورته بتشكيل الحكومة يَتَعَنْتَر بمبدإٍ لا يَحيد عنه، وعنادٍ لا يُلِيُنه، ومطالبَ وشروطٍ معقَّدةٍ مقْفَلة ترفض إِلاّ ما يتماشى ومصالحه الشخصية والوطنية.
لم نعد نريد حكومةَ “مصلحة وطنية”. نريد حكومةَ “الصالح الوطني”.
المصلحةُ الوطنية نسبيّة، يراها كلُّ فريق من جانبه هو، من منظاره هو، من مصلحته هو، ومن مصلحة أَسياده في الخارج.
الصالح الوطني يَخرجُ من الشخصيّ إِلى الغَيريّ، لا يَعود مُلْكاً للفرد بل يُصبح مُلك الشعب كلّ الشعب، والوطن كلّ الوطن.
كيف يمكن تشكيلُ حكومة حين يَتَمَتْرَس كلُّ فريق بمقاعده وحقائبه وشروطه ومطالبه وإِلاّ…
متى كانت الوزاراتُ مُلْكَ وزرائها؟ متى كانت الرئاسات مُلْكَ شاغليها؟ متى كانت المقاعدُ النيابيةُ والحكوميةُ مُلْكَ مَن جاؤُوا إِليها ليكونوا خُدّام الشعب فجعلوا الشعب خادماً عندهم ورهينةً أَمامهم ومكْسر عصا؟
كبارُ الأَعمال تتطلّب كبار الرجال. والرجالُ الكبار يتصرَّفون بما يُريدُه الوطن منهم لا بما يريدونه هم من الوطن.
بلى: نريدُ في لبنان مَن يتعالَون على الشخصانية والذّاتية والمصلحية ليُنْقذوا لبنان من هذا المستنقَع الآسن أَوقعَنا فيه مَن جعلوا الوطن في شَلَلٍ وجمود وتجميد، وسَوف يَخرُجُ لهم بُزُرْجِمَهْرٌ جديدٌ بجوابٍ جديدٍ يحلّ على الوطن وصمةً وعليهم لعنةً لن تمحوها عن ذرِّيَّتهم ذاكرةُ التاريخ.