هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1099: الخـُـنـْـفـُـشارية

الحلقة 1099: الخُنْفُشَارية
(الأَربعاء 15 أَيار 2013)

في الروايات أَنّ مُدَرِّساً في أَحد المعاهد كان لديه عن كلّ سؤالٍ جوابٌ حتى حار فيه تلامذتُه وباتوا ينتظرون حصَّته في الصف ويلتقونه خارج الصف وفي ملعب المعهد، ويُصغون إِلى خُطَبِه المرتَجَلة في الاحتفالات المدرسية يتحدّث في كلّ موضوعٍ بطَلاقةٍ لافتة.
ولم يَخطُر لأَحدٍ يوماً أَن يتحقَّقَ من مرجعٍ ذكَرَه، أَو مصدرٍ نسَب قولاً إليه، أَو قولٍ استَشهد به، لِـما زرعَ من ثقةٍ في نفُوس تلامذته وزملائه فلم يكن أَحدٌ يُجادلُه أَو يناقشُه. إِلى أَن انتهى يوماً من خطابٍ في جَمْع مدرسيٍّ وأَعطى 10 دقائق للأَسئلة، فوقَفَ تلميذٌ ذكيٌّ سأَلَه: “أُستاذَنا الموسوعي، هل لكَ أَن تشرحَ لنا ما هو الخُنفُشار؟”، وبدون التفكير لَحْظةً واحدةً استرسل في الشرح: “الخُنْفُشارُ نباتٌ يظهرُ في أَعلى جبال اليَمَن، نادرُ الوجود، لم يجد الكيميائيون حتى اليوم تحليلاً لتركيبته النباتية، وَوَرَدَ ذكْره في الجُزء الرابع من موسوعة العلوم الطبيعية الصادرة عن جامعة كمبردج”. وانفجرَت القاعةُ بالتصفيق إِعجاباً فيما انفجرَ التلميذُ وجيرانه ضَحِكاً. استفسر المدرّس عن ضحكهم فوقفَ التلميذ صاحبُ السؤال وقال بكل بساطة: “يا أُستاذَنا الموسوعيّ، قبل أَن تصِل إِلى كمبردج أُفيدكَ أَن كلمة خُنْفُشار مُفَبْرَكَةٌ بالحَرف الأَول من اسمي خالد، وأَسماء زملائي هنا: نادر وفؤاد وشاكر وأنور ورمزي، شكَّلْنا منها كلمة “خُنْفُشار” التي لا معنى لها. شُكراً على معلوماتك النفيسة الغالية من جامعة كمبردج”. امتقَع وجهُ المدرِّس وانكشَفَت أَحايـيلُه وأَحابـيلُه، وإِذا كلُّ ما تبجَّح به من معلوماتٍ ومراجعَ ومصادرَ، لا أَساس له من الصحة، فسُمِّي “الخُنْفُشاري” وبات هذا اللَقَبُ يُطلَق على كلّ مَن كان مثلَه متغطرساً في ادعاءاته.
أَوردتُ هذه القصة لأَلْفِتَ إلى الخُنْفُشاريّين حَولنا في كل حقل: في السياسة، في العلْم، في المجتمع، في كلّ مكان يطالعُنا خنفشاريٌّ صاحبُ لسانٍ ذَرِبٍ ثرثارٍ، ينطلق بالكلام ولا يسكُت، يبدأُ بالتبجُّح والحكايات والأَسانيد ولا يسكت، ينفُش صدره في التعالي والتطاوُس لا يرعوي ولا يسكت عن وقاحاتِ ادّعاء.
فهذا مَسؤولٌ مغرورٌ يَعتبرُ أَنه مُصيبٌ في كلّ ما يَفعل ويُحَقّق ويُنْجِز ويُدير، ومَن حَوْلَهُ في الإِدارة جَهَلةٌ كسالى لا يَعمَلون.
وهذا مسؤولٌ يُنَظِّر في المال والاقتصاد على أَنه سيّدٌ فيهما، يُهاجم الآخرين ويدَّعي العفَّة والخبرة وفَضْحَ الغير وتبرئةَ فريقه واتّهامَ سواه، وهو كاذِبٌ أُمّيّ جاهلٌ في المال والاقتصاد، وادّعاءاتُه خُنْفُشاريةٌ ساقطة.
وهذا مسؤولٌ يَطمُر رأْسه في رمال طاووسيّته المضْحكة فيستغربُ أَن يرى العالَـمُ في لبنان وضْعاً صعباً بينما حَضرتُهُ لا يرى في الوضع إِلاّ كلّ جميلٍ ومنعشٍ وجاذبٍ إِلى شواطئ لبنان وجباله وصيفيّته.
وهذا مسؤولٌ يستضاف في “توك شو” تلـﭭـزيونـيّ فلا يكاد المذيع يفاتحه بالسؤال الأَوّل حتى يتمسَّك بجوابٍ أُوتوستراديّ طويلٍ لا ينتهي، يَكُرُّ كلامه بسرعة بَبَّغاويّة، يُثرثرُ على عجل، يدّعي المعرفة ويُـجَهِّلُ الآخرين، لا يأْخذ نَفَساً أَو يُقَطِّع عباراته فيعجز المذيع عن إِطفائه وإِسكاته وحَشْر سؤالٍ اعتراضيّ وسْطَ جوابه الطويل، وهو مستمرٌّ يَتَطاوَس ويَتَعَنْفَس ويَتَعَنْطَس ويَشْمَخِرّ ويَحْلَنْشِش نافخاً صدرَه وشرايينَ زَلاعيمه، ويُصرّ أَن لديه مصادرَه الموثوقة ومعلوماتِه الخاصة، وأَنه هو على صوابٍ والباقون على خطأ.
خُنْفُشاريُّون…خُنْفُشاريُّون… والأَنكى بينهم مَن يَـخْفَنْشِرُون ويُصدِّقون تَصفيق جمهورهم فيُزَايِدُون أَكثر، غيرَ مُدركين أَنّ الشعبَ واعٍ خُنْفُشاريتَهم، وأَنّ مصيرهم قريباً كمصير ذاك المدرّس الخُنْفُشاريّ الذي فَضَحَهُ ذات يومٍ فجأَةً تلميذٌ ذكيّ.