هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1095: حيث نَجدُ الخطأ نبحثُ عن الحقيقة

الحلقة 1095: حيث نَجدُ الخَطَأ نَبحثُ عن الحقيقة
الأَربعاء 17 نيسان 2013

تُودّع بريطانيا اليوم مهابةَ سيِّدةٍ حَكَمَتْها إِحدى عشْرةَ سنةً (1979-1990) بعزْمٍ وحزْمٍ وحسْمٍ ما جعَلَ لها صفة “الـمرأَة الـحديدية” (على بَشاعةِ هذه الصفة تُنسَبُ إِلى امرأَة). كأَنّما المجتمعُ المحافظُ، أَنّـى كان،لم يَـحتملْ أَن تَـحْكُمَ دولةً عظمى سيدةٌ بعدَ رجال، وأَن تنجَحَ حيثُ لم ينجح منهم كثيرون.
يُخطئُ الناس عندما يُـجرّدون الـمرأَة من أُنوثتها الرائعة إِذا نَـجَحَت وكانت ذاتَ عزمٍ وحزمٍ وحسم.
مارغريت تاتشر كانت سيّدةً استثنائية في ولاية غير عادية.
يومَ انتخابِها زعيمةَ حزب المحافظين أَعلنَت: “يا رجال البارحة، هي ذي سيدةُ الغد تُـحيّيكُم”. يومها أَخذَها البعضُ عليها عبارةَ تَـحَدٍّ، فيما هي عبارةُ ثقةٍ من التي بلغَت زعامةَ حزبٍ مـحافظٍ حكَمَه الرجال وترأَّسَتْه بنجاحٍ خمس عشرة سنةً متتالية (1975-1990).
وإِلى حزمِها في الحكْم، كانت حازمةً في التمسُّك بالقِيَم: نَزاهةً وإِخلاصاً وعمَلاً دؤوباً.
ولم تتخلَّ عن أُنوثتها بل كانت بها تتباهى. يومَ كانت مرشّحة للانتخابات أَعلَنَت: “لنا نحن النساء ما يَجهله معظمُ الرجال”. وكانت تتيح نَشْر صُوَرِها في مطبخها، وتتحدّث عن وَصَفاتها في الطهي، وعن فساتينِها الـمُختارة هي الْــكانت تعتني كثيراً بِـمظهرها بَشَرةً وشَعْراً وأَناقةَ قَيَافة، وتأَثُّراً بعبارة سوفوكل: “حين تتساوى المرأَةُ مع الرجلِ تَتفوَّق عليه”. وهي فتحَت على عهدها أُفُقَ الفُرَص أَمام الشابات الطموحات.
هذه السيّدة الكبيرة علَّمَت التاريخَ الحديث أَنّ المرأَة كي تصِل إلى الحُكْم ليست حُكْماً في حاجةٍ إِلى كوتا بل إِلى عقلٍ نيِّرٍ ورؤْيةٍ بعيدةٍ وتفكيرٍ مُهَيكَل. وكانت تستشهد بـمُؤَسِّس الرهبنة الفرنسيسكانية: “حيثُ نَجدُ الفوضى نَعملُ على الترتيب، حيث نَجدُ الخطأَ نَبحَثُ عن الحقيقة، حيث نُعايِنُ الشَّكَّ نُعمِّقُ الإِيمان، وحيث يواجهُنا اليأْس نُجابِهُه بالأَمل”.
بهذا المنطق حكَمَت دولتَها العظمى، ونهارَ خُروجِها من الحُكْم سنة1990 أَعلنَت: “أُغادر داوننغ سْتريتْ للمرةِ الأَخيرة بعد أَحدَ عشَر عاماً من ولايةٍ ناجحةٍ تاركةً مملكتي المتحدةَ في وضْعٍ أَفضلَ بكثيرٍ مما كانت عليه يوم تسلّمتُ رئاسة الوزارة”.
هذه المرأَةُ السَّاطعةُ، مرآةُ جِنْسِها النَّيِّرةُ، الـمُثْبِتَةُ أَنّ للمرأَة جَدارةً في الحُكْم عاليةً وغاليةً، تَنحني اليومَ في مأْتَـمِها الرسميِّ والشعبيِّ حتى الـمَلكةُ التي ليس في ﭘْـروتوكول الـمَملكة أَن تُغادرَ قصر باكنغهام لتُشاركَ في مأْتم رئيس الوزراء، ولم يحصلْ ذلك إِلاَّ مرةً واحدةً قبل نصف قرنٍ يوم مأْتم الكبير ونستون تشرشل.
اليومَ يَنكسِرُ ﭘْـروتوكول الـمَملكة، ويَتقاطَرُ إِلى لندن رؤَساءُ وملوكٌ من كلّ العالم، يَنحَنُون لوَداع السيِّدة التي حَكَمَتْ دولَتَها العُظمى، وكانت هي سيّدةً عُظمى حقَّقَت لِبلادِها ما لم يُـحقِّقه رجالٌ كثيرونَ حَكَمُوا وغادروا الحُكْم وغَرِقُوا بعدَه في ضباب النسيان.