هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1093: بين بَتلة الفـِـتنة ولحظةِ الفـِـتنة

الحلقة 1093: بين بَتلة الفِتنة ولحظةِ الفِتنة
الأَربعاء 3 نيسان 2013

أَفتَح “المنجد في اللغة”، وأَقرَأُ: “الفِتنة: اختلافُ الناس وما يقع بينهم من القتال”.
وأَقرأُ بعد: “الفِتنة: نبتةٌ من فصيلة الزَّنبقيّات، أَزهارُها جميلةٌ تتفتَّح خلال النهار وتنطبق في الليل، وهي تُــزرع للتزيين”.
أَفتَحُ كتاباً عن لبنان الخمسينات والستينات وأَقرأُ: “كانت بيروت أَعراساً من العطر بفضل زهرة الفِتنة، تزيِّن شرفاتِ البيوت أَو تتغاوى شجيراتها في صدر الحدائق، فتزدهي زهراتها البيضاء باسمةً تنافس الغاردينيا والفلّ والياسمين. كان لكل بيت تقريباً في بيروت شجرةُ فِتنةٍ تدلّ عليه من عطرها الزَّ كِيّ في حديقته أَو من زنّارها الجميل على شرفته، فكانت الفِتْنَةُ تُعَطِّر البيتَ وطفولتَنا معاً، وتفوح أُمسياتُنا بأَرجها الـمُنعش في هَدْأَةِ ليالي الصيف”.
أُغلقُ الكتاب عن زهرة الفِتنة الفوّاحة في ليالي بيروت وأَفتح على نشرات الأَخبار مساءً، فأُتابع: “لعَنَ الله من أَيقظ الفتنة. إِشعال نار الفِتنة. دَرْءُ الفِتنة. زَرْعُ الفِتنة. إِذكاءُ الفِتنة. بدأَت الفِتنة. استيقظَت الفِتنة. مشروعٌ فِتْنويّ. انفعالاتُ الفِتنة. أَفعال الفِتنة. ردّةُ أَفعال الفِتنة”. وتَروحُ تتسابقُ الأَخبار والتعليقاتُ من تلـﭭـزيوناتِ الفِتنة وإِذاعاتِ الفِتنة وصُحُفِ الفِتنة وإِعلامِ الفِتنة ونشراتِ أَخبار الفِتنة وتُوكْشُواتِ الفِتنة ومواقعَ إِلكترونيةٍ تتناقلُ الفِتنة ووسائلِ التواصل الاجتماعي تتبادلُ الآراء حول الفِتنة القاتلة.
وتظلُّ الفِتنة حديثَ الناس برُعبها ومخاوفها وأَخطارها بعدما كانت رفيقةَ الناس بعطرها ومنظرها في الحدائق والبساتين وعلى شرفات البيوت.
وتنتقل الزهرةُ الطيّبة من هدوئها الناعم الهانئ إِلى صخب الخوف والقلق، فتفقِدُ معناها الجميل ورمزَها الجليل وعطرَها البليل، وتتّخذُ معناها البشِع ورمزَها الجشِع ورائحةَ الخطر والهلع والموت، ولا تعود الزهرةُ جَمالاً بل تُـمسي رصاصةً، قنبلةً، جهازَ تَـحَكُّمٍ عن بُعْد، جهازاً خَلويّاً مُفَجِّراً، جهازَ تَنصُّتٍ سِرّياً، وتندلع منها لا لحظاتُ الانتعاش بل ظُلاماتُ الانتحار أَو الإِجرام.
وآمل أَلاّ تَلْقى زهراتٌ أُخرى مصيراً آخَر كزهرة الفتنة، لو تَهيَّأَ لها أَن يكون في اسمها معنى آخر، فيُصبحُ للوردة معنى قاتم، وللغاردينيا عطرٌ قاتل، وللمانيوليا رمزٌ سيِّئ، وللياسمينة ثورةٌ قد تُسبِّب اندلاعَ نار لا تنطفئ.
هو هذا الفرقُ بين بَتلة الفِتنة ولحظة الفِتنة. بَتلةٍ تنتظر نسمةً كي تفوحَ فتَملأَ الجوَّ بهجةً وهناءةً وذكريات، ولحظةٍ تنتظر علامةً كي تندلعَ فتملأَ الجوّ قلقاً واضطراباً ومأْساويات.
وإذا كان من قَدَر الفتنة أَن يكونَ في اسمها مَعنَيَان: الأَبيض الجميل والأَسود البشع، ومَدلولان: النُّورُ الساطع والليلُ الهاجع، ورمزان: الحياةُ الزاهية والموت الحاسم، ولكي لا يظلَّ المعنى ضريبةَ تلك الزهرةِ الطريّةِ البيضاء، يَجمُلُ أَن يكُفَّ المعنيّون عن تسمية الفِتنة بهذا الاسم الجميل حين يتحدثون عن البشاعة، فليُسمّوها الخلاف، ولْيُسَمُّوها القتال، ولْيُسَمُّوها المؤامرة، ولْيُسَمُّوها الكارثة، ولْيُسَمُّوها أَيَّ اسمٍ آخرَ بعيدٍ عن نقاوةِ الزَّهر ونوره، قريبٍ من المعنى الآخرِ الذي فيه العتمة الظلماء.
هكذا تعودُ إِلى الشُّرفات من بيوت بيروت، وإِلى حدائقِها ومداخلِها وبساتينِها وذكرياتِها، زهرةُ الفِتنة البيضاءُ تتغاوى على أَخَواتِها الغاردينيا والمانيوليا والياسمين، ولا تَعودُ تَخشى من استعمال اسمها في أَيِّ ما يُبعدُها عن أَخواتها الغاردينيا والمانيوليا والياسمين.