هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

790: مسافة الضوء

مسافة الضوء
السبت 20 نيسان 2013
-790-

هذا المشهد: عشراتُ اليابانيين واقفين ليلاً في صَفٍّ طويل ينتظرون دَورهم لشراء الرواية الصادرة بعد ظهر ذاك اليوم.
وهذا المشهد: مكتبةٌ كبرى في حيّ ياباني رئيسٍ تُغَيِّرُ اسمَها إلى اسم الروائيّ اليابانيّ صاحب الرواية الجديدة.
وهذا المشهد: مكتباتٌ عدَّة في طوكيو ومدن يابانية كبرى تتهيَّأُ لتنظيم ندواتٍ وحلقاتِ نقاشٍ حول هذه الرواية.
وهذا المشهد: سَجَّل موقع “أَمازون اليابان” الإِلكتروني 20 أَلف طلَب مُسْبَق لشراء الرواية قبل ثلاثة أَسابيع من صدورها.
تلك كانت مشاهدَ من اليابان ليلةَ صُدُور الرواية الجديدة “سَنواتُ حَجِّ تْسُوكُورُو تازاكي الْــبِلا لَوْن” للروائيّ اليابانيّ هاروكي موراكامي (64 سنة) أَشهر كاتب ياباني معاصر.
لافتٌ هذا الحَدَث: وقوفُ العشرات في صَفٍّ طويلٍ لا عند شبّاك تَذاكر صالة سينما، ولا عند مَدخل فُرن، ولا عند باب سوﭘـرماركت، ولا عند محطة محروقات صبيحةَ الإِعلان عن انقطاع البنزين، بل عند بابِ… مكتبة. وعن وكالات الأَنباء أَنّ مداخل المكتبات يومَها شهدَت كدساتٍ عاليةً من نُسَخ الرواية (400 صفحة قطعاً كبيراً) كان يتلقَّفها القراء كما أَرغفة الخبز.
أَمام هذا الإِقبال اللهيف أَعلن الناشر عن طباعة 100 أَلف نُسخة أُخرى بعد إِصداره الطبعة الأُولى في 500 أَلف نُسخة.
الكاتبُ القليلُ الكلام والظُّهور أَوجَزَ تجربتَه في تصريح ضَئيل: “بدَأْتُ أَكتب قصةً قصيرة. لكنّها أَخذَت تتمَطَّى وتَطُول وأَنا أَكتُبُها، وذاك يحصل معي للمرة الأُولى. لم أَكُن صَمَّمتُ على أَيِّ حجْم أَو شَكلٍ حين بدأْتُ الكتابة”.
وعاد فاختفى. لم يَظهَر في برنامج تلـﭭـزيوني، ولا في حديثٍ صحافي، ولا احتفالِ توقيعٍ في معرض كتاب. تَرَك كتابه أَن يشُقَّ طريقَه وحده. وهذا قَدَرُ الكتاب، كُلّ كتاب، حين هو على حجم مسؤوليةٍ يَعيها الكاتب تجاه قُــرّائه.
نحن في اليابان، أَي في بلد التكنولوجيا الـمُتطوّرة بامتياز. ومع ذلك لم “يتكاسل” القُــرّاء ليطالعوا الرواية إِلكترونياً، بل “تكبَّدوا” الوقوف في الصف ليلاً للحصول على النسخة الورقية من الرواية.
هذا الشرفُ يَنالُه مُؤلِّفٌ ذو نتاج مُـميَّز، ومعه ناشر يُـحْسن الإِعلانَ والإِعلامَ والتَّسويق، هو أَيضاً شرفٌ لقارئٍ يَحترم الكتاب ويجعل اقتناءَه حاجةً له كالرغيف، كالدواء، كالجهاز الخَلَوي، ما يُشير إِلى أَنّ القراءة لا تزال، عند الشعوب الواعية العارفة، طبيعةً أُخرى لها جوعُها وعطَشُها ورغبَاتُها الـمُستدامة في اطّلاب الكتاب.
هنيئاً لكاتبٍ يَلقى هذا “الوقوفَ في الصف”، وهنيئاً لناشرٍ يطبع بِـمئاتِ الآلاف، وهنيئاً لقارئٍ يَكون الكتاب مسافةَ الضَّوءِ بين يَدَيه وَعَينَيه.