هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1091: مـَدخـنـَة ساحة النجمة

الحلقة 1091: مَدخَنَة ساحة النجمة
الأَربعاء 20 آذار 2013

الدخانُ الأَبيض الذي انفرَجَ الأَربعاء الماضي من مَدخَنَة الـ”كاﭘِّـيلاَّ سيسْتينا” لَـم يُعلِن انتخابَ بابا جديد فقط، بل احترمَ نظامَ انتخابٍ مسنوناً واضِحاً اتَّبَعه الكرادلة خَلَواتِ تَأَمُّلٍ وتَتالي دوراتٍ وسريَّةَ اقتراعٍ فإِعلانَ النتيجة على شرفة الـﭭـاتيكان.
هذا النَّسَق الانتخابي يعادلُ بأَهمية انتظامِهِ انتخابَ بابا جديد لأَنه يؤكّد قانونَ انتخابٍ ثابتاً مُتَّبعاً من زمانٍ، مُـحتَرَماً من زمان، مُنَظَّماً من زمان، واضحاً من زمان، فلا يضطرُّ الكرادلةُ مع كل انتخابِ بابا أَن يُغَيِّروه ويعدِّلوه ويتَشاحنوا من أَجله، ولو فعلوا لكانَ الدُّخان سيخرجُ أَسْوَدَ أَسْوَدَ أَياماً وأَسابيعَ وربما أَشهراً فيكونُ الانتخابُ مهزلةً عوضَ أَن يكونَ مِثالاً.
أَقول الدُّخان الأَسْوَد وأُفكِّر بما عندنا في السياق نفسه: لا نرى إِلاّ الدُّخانَ الأَسْوَدَ يتصاعد من مَداخن السياسيين وتصاريحهم وعِنادهم وتَشَنُّجاتهم ووسائلِهم الإعلامية الخاصة والعامة ودورانِهم مكانَهم كالدروايش حتى يَدُوخوا ولا يَقعوا لأَن دَوْخَتَهم مُزوَّرةٌ مُزيَّفةٌ وأَماكنَهم محفوظةٌ سلَفاً فلا داعٍ للبحث الجِدّيّ من أَجل اكتسابها.
بابا واحد لِـمليار و200 مليون كاثوليكي في العالم تَمَّ انتخابُه في يومين بـــ115 كردينالاً وخمس دوراتٍ سرّيّةٍ هادئةٍ لا تصاريحَ فيها ولا تشنُّج. وعلى مقياس أَصغرَ بكثيرٍ كثيرٍ: أَربعةُ ملايين لبناني لم يجد سياسيُّوهم بَعدُ قانونَ انتخابٍ لأَن طبّاخيه لا يريدونَه مؤاتياً مصلحةَ الوطن بل مصالِحَهم الخاصة وﭘـوانتاجاتهم الخاصة ومقاعدَهم النيابيةَ الخاصة للحفاظ على شعبيتهم الخاصة. يدَّعون البحث عن “صحّة” التمثيل ويعمَلون لـ”حصّة” التمثيل. وبين “صحّة” الوطن و”حصّة” سياسييه لا يزال الدُّخان الأَسْوَدُ يَطْلع من لجنةٍ هنا ولجنةٍ هناك، وتيّارٍ هنا وتيّارٍ هناك، وحِزبٍ هنا وحِزبٍ هناك، وتَكَتُّل هنا وتَكَتُّل هناك، وكُتْلةٍ هنا وكُتْلةٍ هناك، والوقتُ يـمرُّ والاستحقاق يقترب، وهؤُلاء الجهابذة يجتمعون ويتَجَمَّعون ويَجمعون وينجمعون ويظلُّون منقسمين: كُلٌّ يشُدُّ بقانون الانتخاب صوب ﭘـوانتاجه الخاص، والنتيجة واحدة: دخانٌ أَسْوَدُ من مَدخَنَة الوطن.
115 كردينالاً اجتمعوا من أُوروﭘـا وأَميركا وأَفريقيا وآسيا، يُـمَثِّلون أَقلياتٍ وأَكثرياتٍ ومُلَوَّنين لم يُراعوا إِيطاليا أَن يكون البابا منها، ولم يُراعوا أُوروﭘـا لأَن الـﭭـاتيكان فيها، ولم يُراعوا تقليداً يُرضي أَحداً، بل راعَوا مصلحة كنيسةٍ ترعى مليار كاثوليكيّ فانتخبوا مَن وجدوه غنياً بتَقَشُّفه، كبيراً بِـحُنُوِّه على الفقراء، عالياً بتواضُعِه، ساطعاً بزُهده في البهرَجات الدنيوية، وسلَّموهُ قيادةَ مؤمنين انحنى أَمام حفنةٍ منهم في ساحة مار بطرس وقال لهم: “صَلُّوا لأَجلي”.
هكذا، لأَصغر دولةٍ في العالم هي الـﭭـاتيكان، انتخَبَ الكرادلة رجُلَ دولةٍ لا رجلَ سياسةٍ لِـمُشاحنات الكاثوليك في العالم.
بلى: قانونُ انتخاب البابا يعادلُ شخصَ البابا لأَنه مثالُ الالتزام تلقائياً بهذا القانون، فلا يُضطَرُّ الكرادلةُ عند انتخابِ كلّ بابا جديد للتشاحُن بِسَنِّ قانون انتخابٍ جديدٍ سِتّينيٍّ أَو أُرثوذكسي أَو أَقلّي أو أَكثريّ أَو نسبيّ، ولا بإِطاحة قوانينَ سابقةٍ وفترةٍ قُصوى يحدِّدها الدستور. فالدستورُ ثابتٌ كالشرع، والقوانينُ تُثَبِّت الدستور والشرع، وإِلاّ انتُهكَ الشرع وسادت شُرعة الفوضى وأُطيحَ الدستورُ وأَفلتَت الأَنظمةُ من انتظامِها النّاظم الـمُنتَظِم الـمُنَظَّم. والدليلُ أَمامنا واضح: مليار و200 مليون نسمة في العالم تَمَّ انتخابُ قائدِهم بيومَين فقط، وحفنةٌ من أَربعة ملايين لبناني يتغيَّر لديهم كُلَّ أَربع سنواتٍ قانونُ انتخابٍ يتمطّى أَشهراً ويتثاءَبُ ويتَهاوى ويترنَّح، يَنتظرُ اللبنانيون نتيجتَه ملهوفين فَلا يَرَون من مَدخَنَة ساحة النجمة إِلا… سحابةً بَشِعَةً من الدُّخان الأَسْوَد.