هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1088: “نارَة يا بَلد”

الحلقة 1088: “نارَة يا بَــلَــد”
(الأربعاء 27 شباط 2013)

شوارعُ المدينة متهيِّبةٌ ملاَّلاتٍ تَتَسَلْحَفُ فيها صامتةً إلاّ من جَلْجَلَةِ جنازيرها. ساحاتُ المدينة خاليةٌ إلاّ من جنودٍ ورجال أَمْنٍ يترصَّدون النواصي والزَّوايا والأَزِقّةَ وأَبوابَ البيوت، متوقِّعين مُتَوَقَّعاً ليس في التَّوَقُّع. بيوت المدينة شبابيكُ: بعضُها مطفأٌ وبعضُها مضاءٌ بـبعض خجلٍ كأَنَّ ما سيكون سوف يأْتي من مجهولٍ غيرِ معروفِ المصادر ولا النيّات.
هذا ليس مشهداً في فيلم “هيتشكوكيّ” بل لـمحةٌ عن أَحياء في بيروت تتحفَّز احتياطاً لخلَلٍ أَمنيّ في وقتٍ بات معه الأَمن مهدَّداً، أَو هكذا يَرشَحُ من وسائل إِعلامٍ تتلاطَمُ فيها الأَخبار ويتعاظَم فيها السياسيُّون متواجِهين من محطةٍ إلى أُخرى ومن “توك شو” إلى آخر، ومع كلِّ نَبَإٍ وخْناقَة “توك شو” هلعٌ جديد للمدينة أَهلاً وسكاناً وأَجهزةً تتحفّز للانقضاض في ساعة الصفر.
ما أَصعبَ أَن تَتَعَسْكَرَ المدينةُ الهانئةُ ولا ترى منفذاً أَمام عَسْكَرَةٍ من كلّ نوع: هنا مُظاهَرةٌ لغايةٍ مدنيّة، هناك اعتصامٌ لغايةٍ تربويّة، هنالك تظاهرةٌ لغايةٍ معيشيّةٍ تُقابلها خطَبٌ محمومةٌ تنتصر لقضيّة، وعلى منصة أُخرى خطبٌ أُخرى عنترية، و… لا ينتهي الكرنَـﭭَـال ولا يهدأُ للحال حال، وتذهب نصوصُ القوانينِ الضابطةِ الكُلِّ هباءً بين أَيدي الكُلّ. فلا أَحد يلتزم بالقوانين التي، كحبوب الـمَسبحة، إِذا انفلَتَت منها حبةٌ كَرَّت بقيّةُ الحبوب، كما في مناطقَ خارجةٍ على السلطة لم تلتزم المطاعمُ بقانون منع التدخين فأَخذت المطاعمُ في بقيّة المناطق تغتصب القانونَ كي لا تخسرَ زبائنَها، وإذا محاضر الضبط بحقّ المخالفين أَوراقٌ عقيمةٌ كأَوراق اللعب بين أَيدي اللاعبين، وَكَمَبْسم الأَركيلة في فمهم يُزيحونه إلى طرف الشَفَتَين كي يَصيحوا: “نارَة يا وَلَد”! وتتردّد العبارةُ من المطعم إلى الشارع إلى الساحة إلى الـ”توك شو”: “نارَة يا ولد”. وتأتي النارة: هنا إلى رأْس الأَركيلة، هناك إلى رأْس المظاهرة، هنالك إلى رأْس الوضع الأمني، وكلُّ ذلك أَمام رجال السلطة المولَـجين حفْظَ الأَمن، وتُوشِكُ الـ”نارَة” أَن تتحوّل شرارةً تُضرمُ النار في الأَركيلة والـمُظاهرة والوضع الأمني، كلّما حصل اشتباهٌ أَو تَراشُقٌ كلاميّ، وكلّما سجّلت المراصد ظُهوراً مُسلَّحاً أَو تَـحرُّكاً في زاروبٍ أَو شارعٍ أَو ساحةٍ أَو مدخلِ بنايةٍ أَو محلّةٍ أَو حـيٍّ فيه مكتبٌ حزبي أَو تَـجَمُّعٌ سياسيٌّ أَو في مهرجانٍ أَو اعتصامٍ أَو تَـحَرُّكٍ احتجاجيٍّ يرتدي لُبُوس “التَّحرُّك السِلميّ” أَو المفترض أَنه سلميّ. والسلطة التي تعجَز عن منع التدخين والاعتداءِ على القرى الحدودية والخطفِ مقابل فدية ومعالجةِ أَسباب الإِضرابات والاعتصامات، تعجز حتماً عن منع السلاح أَو عن جَمْع السلاح أَو عن توحيد السلاح.
“نارَة يا ولد”… وتندلعُ النارة في الأَركيلة ويندلعُ الدخان حتى يختلطَ جَــوُّ المطعم بـِـجَـوّ المدينة، وتختلطَ الأَصوات بين ضجيج الروّاد وصُراخ الـمُعتصمين، بين ضربة النَّرد على طاولة الزهر وطلقات الرصاص في الهواء لتفريق المتظاهرين، ويختلطَ الضجيج بين قرقعة الصحون وَجَلْجَلَة جنازير الدبابات، وتَسْوَدَّ السماءُ من الحريق الأَسْوَد قبل أَن تَسْوَدَّ ملابسُ النساء بثيابِ الحِداد، وتختلطَ الصرخات بين مناطقَ يحكمُها منطقُ لُورْداتها وأَسيادها، ومناطقَ تنحو نحوها تحت شعار حقوق الأَقليّات.
“نارَة يا ولد”… وترتعد هواجس السلطة من انفلات الشارع وانفلات المساجين، وتعجَز عن تطبيق القانون فيُصبحُ سجنُ رومية مسلسلاً تلـﭭـزيونياً مُشوِّقاً أَين منه تشويقُ الفرار من سجن آلكاتراز الشهير بـإِحكام الحراسة فيه والإِجراءات والتدابير.
“نارَة يا ولد”… ويتأَجَّج جَـمرُ الفحم على رؤُوس الأَركيلة، ويتأَجَّج جَـمر الحقْد على رؤُوس الهائجين، وينتظرُ كلُّ فريقٍ “نارَةَ” الآخَر كي يُقابلَها بِــــ”نارَة” أَقوى، ويدنو الخطرُ من هناءة وطنٍ على شفير الاشتعال، وتنقلبُ “نارَة يا وَلَد” إِلى “نارَة يا بَــلَــد”.