هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1077: كي لا تدخُلَ “الصِّـــئـْـبـان” إلى عُقــُــول صـِغارن

الحلقة 1077: كي لا تَدخُلَ “الصِّئْـبَانُ” إلى عُـقُـول صِغارِنا
الأربعاء 12 كانون الأول 2012

شَكَتْ إِلـيَّ سيّدةٌ صديقةٌ نُفُور ابنتِها ذاتِ الستّ سنوات من كتاب اللغة العربية في المدرسة، وخصوصاً من قصائدَ تُعطى لها استظهاراً فتَبكي الصغيرةُ لا من الدَّرس بل من غُموض القصائد وصُعوبتِها ومعانيها التي تعجَزُ حتى الوالدةُ عن شرحها لها.
سأَلتُها عن الكتاب. أَطلعتْني عليه فطالَعَتْني، أَولَ ما فتحْتُهُ اتفاقاً، قصيدةٌ ليست ولا بحالٍ لصغارنا في السَّنوات السِّت.
مما جاء في تلك القصيدة: “وكانَ في الجزيرة الخضراءْ… صغيرةٌ شَـمّاءْ… فاجأَها ثُعبانْ… يجرُّ خلفَه الجرادَ والصِّئْبان… فَوَسَّخوا وقطَّعوا…”، إلى آخر القصيدة التي يَطلب مؤلِّفو الكتاب من قرّائهم الصغار شرحَ كلماتها وفهمَ معانيها.
فكيف نشرح للصغار في هذه السن المبْكِرة معنى “شَـمَّاء” وهي بهذا اللفظ غير المألوف في قاموسهم اليومي؟
ومن هُم هؤلاء الذين “وَسَّخوا وقَطَّعوا”، ولم يَرِدْ في كلّ القصيدة ذكْرٌ لناسٍ قطَّعوا ووسَّخوا، فكيف نعرِّف الصغار مَن هُم؟
وكيف نشرحُ لهم “الجراد” وهو في غير ذكرى حتى الكبار الذين يأْنفون في بيوتهم ومحيطهم من الحشرات الشبيهة بالجراد؟
وكيف نشرحُ لهم “الصِّئْبان” وقلَّةٌ من الكبار يعرفون أنها، بحسَب “المنجد في اللغة العربية” تعني: جمع “صُؤَابة”، و”الصُؤَابة” جمعها “صُؤَاب” و”صِئْبان” أَي “بَيْضُ القَمْل”، و”القَمْل” جمع “قَمْلة”، و”القَمْلة”: “حشَرةٌ صغيرةٌ جداً تلسَعُ الإنسان وتغتَذي من دمه، وهي تعشِّش بين شَعر رأْسِه أَو في مفاصلَ من جسَده”.
هل هذا ما نطمحُ إلى تعليمه صغارَنا؟ الصِّئبان؟!؟
وهل هكذا نُرعِبُ صغارَنا ونحن نعلِّمهم قصائدَ يحفظونها كي يتذوَّقوا الشِعر ويتذوَّقوا اللغة العربية؟ الصِّئْبان؟!؟
وكيف نحبِّب الصغار باللغة العربية حين يبدأُ عهدُهم بها مع الثُّعبان والجراد والصِّئْبان؟!؟
هذا كي لا أُعرِّج طويلاً على إِخراج كتاب العربية بشكل متَحَذلق لا تجذُبُ صفحاتُه المحشوَّةُ رغبةَ الصّغار حتى إلى التطلُّع والتأمُّل في مضمون الصفحة نصوصاً وأَسئلةً ورُسُوماً غيرَ جاذبةٍ ولا مغْريةٍ للعين قبْل الفهم.
سألتُ السيدة الصديقة أَن تعطيني كتابَ صغيرتها الأجنبيّ، فإذا به بهيجٌ ملوّنٌ بإخراجٍ مشَوِّقٍ جميلٍ ورسومٍ لطيفةٍ وأَسطُرٍ مريحةٍ قبل أَن أَدخل إلى المضمونِ المكتوبِ بقاموس الصغار، بسيطاً غير مُبَسَّط، وسَهلاً غيرَ ساذج، ذا معانٍ قريبةٍ من مفهوم الصغار على عُمْقٍ ذكيٍّ يقطفونَ منه عِبرةً وقصَّة جميلةً يَفهمونها ويحبُّونها.
لا أُريد هنا التقليلَ من جهد بعض المؤلفين، لكنَّ معظمَ كتبِنا المدرسيةِ للُّغة العربية ليست موضوعةً بقاموس الصغار بل بقاموس كبارٍ يكتبون للصغار، وهذه مَهَمَّةٌ صعبةٌ للمؤلّفين أَن يختاروا نصوصاً للأُدباء والشعراء يفهمُها الصغار، والمهم أَكثر: يحبُّونها.
هذا إلى إخراجٍ لكتب الصغار العربيةِ معَقَّدٍ متَداخلٍ لا يُريحُ الصغارَ ولا يَـحمِلُهم إلى رغبةِ المطالعة والفَهم والتَّذَوُّق.
فكيف يرغبون وكيف يفهمون وكيف يتذوَّقون حين يَفتحون كتابهم على الثُّعبان والجراد والصِّئْبان؟
وكيف مرَّت هذه الكتبُ على مَسؤولين تَربويين في مؤسساتٍ رسمية لا تذْهَب الكتُب إلى المطبعة من دون موافقتهم؟
وكيف لا يَهرُب صِغارنا إلى اللغاتِ الأجنبية وكتُبِها حين يدعوهم مؤلِّفو الكُتُب المدرسية العربية إلى الثُّعبان والجراد والصِّئْبان؟
إن الخطرَ الداهمَ هنا ليس أَن تدخُل الصِّئبان إلى شَعر صِغارنا بل إلى عُقُولهم، وعندها لا قوَّةَ يُـمْكنها بعدُ أَن تـحَبِّبَهُم بِلُغةٍ بدأُوا يتعلَّمونها برُعب المعاني وهَوْل مُواجَهَتِهم خطراً من لسعةَ الثُّعبان، وامتصاصَ دمائِهم من لَسْعةِ الصِّئبان.