هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

حرف من كتاب- الحلقة 87
“أرز”- الشاعر جوزف صايغ
الأحد 21 تشرين الأول 2012

       “بعدما نظرتُ في جميع الأَسماء، بحثاً عن اسمٍ أَمنحُهُ تَشَرُّدي، وقَعَتْ عينايَ على زُرقة البحر، فقلتُ: إنها زُرقةٌ صافية.
ثُمَّ رأَيتُ إلى موصوفِ تلك الصفة، فقُلتُ إنه بحرٌ حُرّ. ثُمَّ رأَيتُ أظلالاً تَنشر طراءتها على تلك الزُّرقة الحُرَّة الصافية، فقلتُ إنه الأَرْز. وراقني ذلك، فلبسْتُ الظلّ ثوباً، وعمَرتُ البحرَ بيتاً، ورحتُ أَتبحّر في تلك الزُّرقة الحُرَّة الصافية… وأَكتُب”.
بهذه الفاتحة الندِيَّة بِحُبّ الأَرْز ووطن الأَرْز، افتتح الشاعر جوزف صايغ كتابه “أَرْز” في 120 صفحة نَصّاً رابعاً في المجلَّد الرابع من مؤلّفاته الشعرية الصادرة سنة 2004 عن منشورات “دار النهار”.
هويّة الكتاب، كما يرسمها جوزف صايغ، أَنه “نَثْرٌ في مقام الشعر”. ومن يعرف جوزف صايغ، الشاعرَ المُتأنّقَ النحت الشعري والبارعَ في النحت النثري، يعرف أَنّ نَثْرَه مشغولٌ بتطريز القصيدة، وسَطرَه النثْري مصقولٌ بِمُعاناة بيتِ الشعر.
يَستهلُّ الشاعر كتابه بعبارة المؤرّخ الألماني فْرِدِريك فوستر راثياً الفيلسوف هيغل (16 تشرين الثاني 1831) بأنّ: “هيغل هو أَرزةُ لبنان”. ويَمُرّ على سعيد عقل في بيتَين من ترجمته قصيدة شارل قرم “الجبل الملهم” وهما:
أَيها الأَرْز، غابةَ الربّ، أَيُّ العبقريِّين لا يَهي في نَشيدِكْ
أَنتَ، يا شاهدَ الممالكِ والآزال، تَنهارُ في ظِلالِ خلُودِكْ
سوى أَنّ في الكتاب، من أجْل هذا الحب الكثير إلى الأرز ووطن الأرز، غَضباً كثيراً على أَبناء الأرز الذين بَلَغوا قمّة القمم ثم تراخوا فما عادوا أَسياد تلك القمة ولا هذه القمم.
ولِمْ غَضبةُ الشاعر؟ لأَنّ آلَهُ كانوا على جَبين الزمان: “غَزَوا التاريخ، ومن تُخوم الأُسطورة بَدأُوا السير نحو الحاضر. ومن الأَمس الغائم كشحوا كلّ غمامة قد تَحجُب الفجرَ الوليد، وفاتَهُم أَنّ مَن زَوَّر أَمسَه لا يومَ له، ومَن حرّف ذكْره لا يُذكَر. اجتازوا عصوراً من الخوف والاضطهاد، وأَعناقُهم تقَلَّدت المشانق، وما لبثوا حتى بلَغوا في الصخور العالية معتَصَماً، وفي المغاور الممتَنِعة حُصوناً، فالقِلّة للقُلل، والأقلّ للأكثر. فَتَّتُوا الصخْر تُربةً ذَرعوا في يَبْسِها ذرعانَهم، ومن عرَق الجباه وماءِ العُروق سَقَوها فَأَينَعَت”.
وبعد اعتزازه بعنفوان أهل وطنه، رسم لهم الصورة القاسية: “لكنّ الغزاةَ والعُتاةَ وأَبطال الفاتحين وبُطّالَهم جاؤوا، يتقدَّمهم البؤسُ والعسْف: قطَعوا العرائش، صادروا المواسم، علَّقوا المشانق في الساحات والفرمانات على الجدران، وخيَّم على الجبل الشامس ظلام دامس دام أجيالاً. هذا هو الشعب الذي ذُهِل عن ذُلّ أمسه، وزوّر ذاكرته، وزيَّف أَسماء أَبنائه فلا يُعرَفون، شعبٌ مغلوبٌ محبَطٌ لا صوتَ له ولا سميع. بسواه يستقوي، وبغير ما يعَزُّ يَعتَزّ. حرَّف الكلمةَ وسمَّى بغير أَسمائها المقدَّسات. شعبٌ صَدَّق جلاّدَه وعلى أَصدقائه تَجَبَّر، وها هو اليومَ لا صديقَ له، ينتحِبُ تحت المِجْلَدَة ولا مَن يضمّد جراحه، يشرَب دموعَه خِفْيةً فلا يرى سفّاحه دُموعَ ذُلّه”.
كتاب جوزف صايغ “أرز”، يأخُذُنا إلى افتكارِ معاهداتٍ آذَت شعبَنا، ويأخذُنا إلى أَبعد: إلى مراثي إرميا على أورشليم، وإلى تَفَجُّع أَنبياءِ التوراة، فيَسخطُ على شعبه لأنه بلَغَ نعمة الاستقلال ثم سقط في نقمة اللاستقلال:
أَنا الأرزُ، في البدء، أَيامَ لا نضارةَ في الفكر، كنتُ النضارَه… غُصوني إلى الله كانَت صلا… وجِذعي إلى الأرض كان الحضارَه
وها أَنذا اليومَ دمعٌ سَكيبْ… على الهَون ثاوٍ، فَلا أَنجُمُ…زواهرُ في أَغصُني تَحلُمُ… بمَجدٍ… إلى الفأْس عُودي الصَّليبْ
إنه غضَبُ الماضي على مَن جَعَلوا الحاضر دون مَجد الماضي، صَوَّرَهُ جوزف صايغ بِنَثْرٍ مُقَطَّر ٍشِعراً، في صفحاتٍ حارَّة من هذا الكتاب الذي يَصلُحُ أَن يكونَ وِساماً على صَدْر كُلّ حُرٍّ يعرفُ أَن يَغْضَبَ على هَدْي الشعر.
وليس أَعتى على ضمير التاريخ من غَضْبَة الشُعراء.