هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

حرف من كتاب- الحلقة 8
“فلندفن الحقد والثأْر- قدرٌ لبناني”- مكررة عند وفاة غسان تويني
الأحد 10 حزيران 2012

بعيداً عن التَّفَجُّع والدُّموع، حين ودَّعناه أمس أَوْدَعَنَا وصيةً لم يكتبها بحبره بل ببحره الوطني الوسيع: الحوار والغفران.
هذا الرجل الذي لم يَترك القدر ضربةً إلا وجَّهها إلى صدره، ظَلَّ صدره يَرُدّ ضربات القدر: لا بالانتقام بل بالغفران، ولا بالثأْر بل بالحوار.
حتى وهو يقف على نعش جبرانه الشهيد، أَطلق بصوته المتهدِّج نداءه العالي: “لِنَدْفِنِ الحقد والثأْر”.
لأنه كذلك، وتحيةً له في وداعه، أُعيد اليوم حلقة سابقة من هذا البرنامج كنتُ أذعتُها صباح الأحد 3 نيسان 2011، قرأْتُ فيها حرفاً من كتاب غسان تويني “فَلْنَدْفِنِ الحقْدَ والثأْر- قَدَرٌ لبناني” تَـمَـثُّلاً بهذا الكبير الذي كان في ذاته حُضُور قَدَرٍ لبناني.

===========================================

بقلمٍ يقطُر ألَماً مُكابراً،
وصوتٍ يغُصُّ بِحِبر الكِبَر،
أدلى غسّان تويني بأَحاديثَ إلى الكاتب الفرنسي جان فيليب دو تونّاك (Jean-Philippe de Tonnac)
الذي جَمعَها في كتاب (Enterrer la haine et la vengeance – Un destin Libanais)،
وصدرَت له مؤخَّراً ترجمةُ جان الهاشم إلى العربية
عن منشورات “دار النهار” في 170 صفحة قطعاً وَسطاً بعنوان “فَلْنَدْفِن الحقد والثأْر – قَدَرٌ لبناني”.
ولَم تَأْتِ لغةُ الكاتب – وبعدَه المترجم – بعيدةً عن نَفَس غسان تويني في الكتابة،
ولا عن أُسلوبه السَّهم في رشق المعنى الوسيع بأقلّ كلماتٍ تخترق الذهن والقلب
في موجةٍ من نسيج كبار الكتّاب في العالم.
توطئةُ الكتاب من “الدوحة” عند افتتاح متحف الفنون الإسلامية في قطر، وفي معرض “حوار الحضارات”،
حين اكتشف غسان تويني لوحة “السيدة العذراء” بريشة جنتلي دي فابريانو (من القرن الخامس عشر)
وعلى ثياب العذراء آياتٌ قرآنية، فسمَّى تويني تلك اللوحة “عذراء الصفح والحوار”.
وأضاف: “رافقَتْني صُوَرُ القدّيسين طَوالَ حياتي، وكلما تقدّمتُ في السن أحسسْتُ بوجودها أكثر.
أتحاور معها كلّ يوم كما أَتَحاور مع صُوَر مرصوفة على مكتبي في جريدة “النهار”،
لأَحبةٍ انتزعهم مني القدر، بطريقة بربرية أحياناً:
والدي جبران ووالدتي، وصُوَرِ وَلَدَيَّ جبران ومكرم، ووالدتِهما ناديا وابنتنا نايلة،
أُكلِّمهم عبر تلك الصُّوَر ويكلِّمونني،
وأكشِف لهم عن مكنونات قلبي”.
من هذه التوطئة العابقة بالوجدانية،
تتسلسل فصولُ هذا الكتاب الاثنا عشر، على إيقاع غسّان تويني:
بدءاً من وداع بكْره جبران ووقوفه أمام جثمان ولده القتيل، معلناً الصفح والغفران وعدم الثأر لاغتيال ابنه الشهيد.
ويواصل الكتاب فصولَه إلى اكتشاف صاحبه الإيمان،
فإلى وصوله نائباً وهو في الرابعة والعشرين،
فلقائِه الصبيّةَ ناديا علي حمادة في أثينا وزواجه منها،
فسلسلةِ اعتقالاته ناشطاً حزبياً فصحافياً جريئاً،
فتجارِبِهِ وزيراً وسفيراً للبنان في الأُمم المتحدة وإطلاقِ صرخته الشهيرة “أتركوا شعبي يعيش”،
فتحيةٍ إلى أساتذته في الحياة والفكر،
فاستذكارِ ولَده مكرم شاعراً،
فنضالاتِهِ الكثيرة جداً في “النهار”،
إلى الثلاثة الفصول الأخيرة: “مسيحيُّو الشرق”، “مستقبل الشرق الأوسط”، “إله واحدٌ في منازلَ متعددة”،
وخاتمةٍ وجدانية عميقة للكتاب بعنوان “أنا… ذلك الآخر”.
وبعد هذه الفصول ملاحقُ تضَمَّنَت خمسةً من مقالاته في “النهار”،
أَوَّلُها كتبه بين ليل 14 أيار 1948
وأخيرها كتبه في 24 تشرين الثاني 2008.
صَعبٌ هو اختصارُ غسّان تويني في كتابٍ له.
والأصعبُ: اختصارُ غسّان تويني في نصٍّ عن كتاب له.
غير أنْ ليس من الصّعب الانحناء احتراماً وإكباراً
أمام قامة هذا الكبير الذي يَختصر في ذاته
صوتَ شعبٍ
ومساحةَ وطنٍ
وفضاءَ تاريخٍ لا يُمكنُ أن يكتبَه أحدٌ عن لبنان القرن العشرين
من دون التوقُّف عند دَوِيٍّ غيرِ عاديّ،
في قلمٍ غيرِ عاديّ،
أَطلعَ نصوصاً تَبْني وطناً في حجم طموحات غسّان تويني.