هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1052: “السياسة وحلاَّق الطاسة”

الحلقة 1052: “السياسة وحَلاَّق الطاسة”
الأربعاء 20 حزيران 2012

عن سعدون الرُّصافي (حلاَّق سابق ختيار كان دكانُه في شارع عتيقٍ من بغداد) أنّ “الحلاَّق أيام زمان كان يتعاطى مهامَّ أُخرى غير الحلاقة، فيقوم بِـختان الأطفال وقلْع الأسنان ومداواة الجروح ومعالجة المرضى بالأعشاب”. والسعدون أخذ الحِلاقة عن والده الْـكانَ حَلاّقاً جوّالاً يحمل حقيبةَ الحلاقة وفيها طاسة وماكنة ومقصّ وشرشف وصفيحة سـَمْنٍ فارغة يُـجْلس عليها الزبائن.
وكانت قَصَّاتُ ذاك الزمان جميعُها متشابهة لأنها “حِلاقة الطاسة”: يأخذ الحلاّق طاسةً صغيرةً (هي أصلاً إناءٌ لشُرب الماء) يَضَعُها على رأْس الزّبون ويَـحلُق له الشَعر خارج حدود الطاسة فتخرج جميع الرؤوس من تحت يده متشابهة الشّكل والقَصَّة ويتشابه جميع الناس لأن رؤوسهم مرّت على “حَلاق الطاسة”.
أَخَذَتْني إلى هذه الظاهرةِ القديمةِ ظاهرةٌ حديثةٌ في حكومتنا الشوساء اليوم: هي اعتمادُها في معالجتها الأُمور على “حِلاقة الطاسة”.
فعَلى موديل “حَلاَّق الطاسة” نُتابع أَعضاء الحكومة يتشابهون في تصاريحهم ومواقفهم ودفاعِهم عن إنجازاتهم وأنشطتهم وتطمينهم إلى أن “البلد بألف خير” وما يحصل هو عابرٌ عاديٌّ لا يستدعي خوفَ اللبنانيين أو الرعايا العرب أو الأجانب.
هكذا هُم: رؤوسُهم متشابهة، عباراتُـهم متشابهة، آراؤُهم متشابهة، متشابهون في السياسة كما متشابهون أصحاب رؤوس حَلاّق الطاسة.
وحلولُـهم في السياسة كالرأْس المحلوق على الطاسة: موحَّدة مدوَّرة مستديرة متداوِرة بالمداورة والاستدارة والتدوير والتزوير والتبرير.
حلولُهم هي هي، والمشاكل هي هي، والمعالجاتُ هي هي، والتخديرُ براعةٌ كلاميّةٌ في العلاج: تشكيلُ لجنة تحقيق، إحالةُ الملَفّ إلى المراجع المختصة، انتظارٌ يَتَتَالى مَعَ تَتَالي الأيّام والليالي، ينامُ أياماً طويلةً وليالي طويلةً ولا يُفيق إلاّ على حركة اعتصامٍ أو قطع طرقات أو إحراق دواليب فيستيقظ المسؤول من غطيطِه و”يَـحْلَنشِشُ” و”يَسْبَطِرُّ” و”يَشمَخِرّ” و”يَرعوي” ويهرول إلى المفاوضة وعقْد الاجتماعات والتداولات و”التصريحات” أمام كاميرات التلافيز وميكروفونات الراديوات، فإذا بالحلول، كالعادة، تَـخْرجُ طالعةً متشابهةً كالرؤوس المتشابهة الطالعة من تحتِ يَدَيّ “حلاّق الطاسة”.
حلولُـهم لجميع المسائل والمشاكل هي هي: مُوَقَّتة مُـخَدِّرة واعدة استمهالية، والوطن في غَلَيَان، وهُم “يَبِيْضُون” الحلّ مُدَوَّراً على قياس الطاسة لا الطاسة على قياس الحلول، بينما لبنان – لِـمعالجة هزّاته واهتزازاته وارتجاجاته وزلازله – في حاجةٍ إلى مقياس دقيقٍ استباقيّ كمقياس ريختر لا إلى مقياس عشوائيّ استلحاقيّ كمقياس الطاسة.
تلك كانت عادةَ الحَلاقين القدامى كما بلغتْنا أخبارهم في الكُتب من شوارع دمشق وبغداد القديمة.
اليوم غابَت هذه الظاهرة ودخلَت الحِلاقة موضة العصر بقَصّاتٍ لم تعُد تعتمد الطاسَة بل الكياسَة.
فمتى عندنا تَغيب الحلول المتشابهة في السياسة كتَشَابُه رؤوس حَلاّق الطاسة؟
ومتى يقومُ مَن يقْلِب الطاسة على رأْس الحَلّاق فيُوَعّيه أن العصر تغيّر وعليه أن يماشي تحويرة العصر لا تدويرة الطاسة؟
تتقدَّمُ الدول، تتقدَّم، تتطوَّرُ حلولاً ومعالجات، وتتنامى في السياسة، ونبقى نحن هناك، في شوارع العصُور القديمة هناك، ويَستنبط أُولو الأمر عندنا لا حلولاً ناجِعَة بل حلولاً فاجِعَة.
ويا تعْس دولةٍ يَـحكُمُها، في السياسة، مِقَصُّ “حَلاَّق الطاسة”.