هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1051: فلتَحكم البراءةُ الوطن

الحلقة 1051: فَلْتَحْكُمِ البراءةُ الوطن
الأربعاء 13 حزيران 2012

إلى أبنائنا الذين، تلامذةً وطلاباً، يتوجهون بدءاً من اليوم إلى قاعات الامتحان يستشرفون منه إطلالتَهم على المستقبل،
وإلى أترابهم الذين يواجهون القتل والتعذيب وجميعَ أَشكال الموت،
لتنطفئ فيهم كلُّ إطلالة على المستقبل).
باكراً يُفيقُون، بقَلبٍ مفتوحٍ يَنهضون، بعزمٍ يَقِظٍ ينطلقون، على أَكتافهم حقائبُهم، وفي عيونهم إشراقةُ غدٍ من أَجله يكبَرون.
هذا هو المشهد الصباحيّ الذي نعاينُه كلَّ يوم، في أقصى نهارات البرد وأقسى نهارات الحر، برؤْية الأولاد يخرجون إلى حافلة المدرسة أو سيّارة أهلهم، ويقصدون مدارسَهم يتلقَّون على مقاعدها ساعاتٍ من العمر تُـهَيِّئُهم لمشوار العمر.
وفيما هُم كذلك، نجد الكثيرين من أَهل السياسة في نومهم يغُطّون، لا قبل انتصاف النهار يُفيقون، لكثرة ما في سهرة الأمس مشغولينَ صارفينَ ساعاتٍ من الليل على سهرةٍ أو عشاءٍ أو كوكتيل أو احتفالٍ أو استقبالٍ يكونون. وحين يبدأُ نهارهم بعد انتصاف النهار، يكون الأَولادُ عادوا من المدارس مُـحَمَّلين بجديدٍ تلقَّنُوهُ، وبُعْدٍ جَديدٍ من العِلْمِ أَتقَنُوهُ، في انتظارِ عِلْمٍ جديد في نهارٍ جديد.
بين هؤلاء الصغار الناشطين وأولئك الكبار المشغولين، يتأَرجح الوطن في انتظار حُكْم البراءة: لا البراءة من حُكْمِ مَـحكمة، بل براءة النوايا والقلوب والتطَلُّع إلى غدٍ نقيٍّ من رواسب الحاضر غير البريئة في كلّ حقل.
الأولادُ الأبرياءُ جِدِّيُّون في مقاصِدهم، يقْتَبلون الحياة في مسؤوليةٍ يتولاَّها اليومَ عنهم مَن يُسلُّمهم إياها حين ينضُجُون.
والكبارُ غيرُ الأبرياء مشبوهون في مقاصدهم، يقْتَبلون الحياة في مسؤوليةٍ صَوَّروها على قياسهم أَو صُوِّرَت لهم على قياس مَن صوَّروها لهم.
الأَولادُ الأبرياءُ يبكِّرون حاملين حقائبَ ليس فيها سوى أَجندا واحدة: دروسهم وفروضهم، وانتماءٍ واحد: العِلْم، إلاّ عندما يكبرون فيستغلُّهم غيرُ الأبرياء لإحراق الدواليب في الشوارع أو الإسهام في أعمالِ تخريبٍ تجعلهم مشاريع نُسَخٍ ممسوخةٍ عن الكبار.
والكبارُ غير الأبرياء يُفيقون عند منتصف النهار ويحملون حقائبَ فيها أَجندات كثيرة لدروس كثيرة وفروض كثيرة تتنوَّع انتماءاتٍ داخليةً أو إقليمية أو خارجية، وليس لهم إلاّ انتماء واحد: مصالحُهم التشخيصية وطموحاتُهم المشخَّصة ونواياهم الشخصانية.
الأولادُ الأبرياء لا يَسألون، لأنّ لديهم وُجهةً واحدةً هي مدرسةٌ معروفٌ مكانُها وتوقيتُها.
الكبارُ غير الأبرياء يسأَلُون كثيراً لأنّ وُجهاتهم كثيرة، ولا تقصدوهم في مكاتبهم لأنّ جواب السكرتيرة أنهم غير موجودين، ولا تسألوا عن وقتهم الثمين لأنه مبرمج على غير وقتكم العادي، ولا تهاتفوهم خَلَوياً لأن هواتفهم مغْلقةٌ لأنهم مسافرون في مَهامَّ كثيرةٍ ليس بالضرورة أن تكون في خدمة الوطن.
جادُّونَ جادُّونَ الأولادُ الأبرياء، لا أَفكارَ خلفيةً لديهم ولا نوايا مبطَّنة.
ومشغولونَ مشغولونَ الكبارُ غيرُ الأبرياء، مشغولون بالأَفكار الخلفيّة والنوايا الخلفيّة ويتسلَّلون دائماً من الأبواب الخلفيّة.
فتعالوا إذاً نقلُبِ المعادلة: ما دامت البراءة سِمَةَ الأَولاد وغيرُ البراءة سِمَةَ الكبار، والوطنُ لا يقوم إلاّ على البراءة البريئة والنوايا البريئة والمقاصد البريئة، فَلْتَحْكُمِ البراءةُ الوطن، وما هَمَّ عندها أَن يقال عن البريء الطاهر: “الوَلَد وَلَد ولَو حَكَم البَلَد”.