هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

744: أورفليس في كلأّ زمان ومكان (2/2)

أورفليس في كلّ زمان ومكان (2/2)
السبت 19 أيار 2012
-744-

فيما مُـحاضِرو المؤتمر الدولي الثاني لاتحاد الدراسات الجبرانية في جامعة ميريلند غاصُوا على جبران أديباً وشاعراً ورؤْيوياً لا يزال فكرُهُ نابضاً مع تقدُّم العصر بتقْنياته وتكنولوجياه، آثرتُ بحثَ علاقة جبران بلبنان الذي لم يغِبْ عن جبران في منآه النيويوركي.
ففيما لبنان حاضرٌ، بأشخاصٍ وأحداثٍ ومواقع، في كتاباته العربية (“عرائس المروج”، “الأرواح المتمردة”، “الأجنحة المتكسرة”، “دمعة وابتسامة”، “العواصف”، “البدائع والطرائف”)، غاب لبنان عن كتُبه الإنكليزية لكنه لم يَغِبْ عن لوحاته التي في خلفيّة معظمِها ملامحُ وادي قاديشا وراء أَشخاصه الذين يتَّسم أكثرُهم بغياب أعضاء جنسية تدل على ذكوريتهم أو أنوثتهم.
بين بوسطن الكتابة بالعربية ونيويورك الرسم بالنوستالجيا، ظَلَّ ينبض فيه لبنان بين قلمه وريشته. مع أَنّ ما أَعطتْهُ نيويورك (وقبلَها بوسطن) لم يكن يمكن أن يعطيه إياه لبنان لو لم يهاجر منه. رغم ذلك ظلَّ حنينُه إلى لبنان صاحياً فيه طوال إقامته الأميركية، حتى أنه باح لميخائيل نعيمه عصر 16 تشرين الأول 1920: “أمنيتي يا ميشا أن أَزور وادي الأرز قبل أَن أَموت”. فكأنّ خيالات بشرّي والأرز ووادي قاديشا وتلك التلال والجبال والوهاد وعى عليها ونشأ بينها وانسلخ عنها وهو ابن اثنتي عشرة، لم تبارح عينيه ولا فكره ولا ذكريات قلبه الذي ظلَّت خلجة حاضرةً من نبضاته هناك.
وبين نذره الصارخ: “لو لم يكن لبنان وطني لاتخذتُ لبنان وطني”، وضلوعِه فاعلاً إدارياً وتنظيمياً في لجنة إغاثة منكوبي لبنان خلال الحرب العالمية الأولى، وصرختِه في وجه حُكّام وطنه “لكم لبنانكم ولي لبناني”، واستشاطةِ غضبِه على شعبه من أَجل إيقاظه: “أَنا أَحتقركم يا بني أُمّي لأنكم تحتقرون نفوسكم، وأَكرهكم لأنكم تكرهون المجد والعظمة”، يتّضح ما يحسُّه في نمط الحياة بين ما يعاينه في أميركا الحرية والعدالة وحقوق الإنسان وما يعانيه شعبُه من قهر تحت وطأة الحكم العثماني.
وأكثر: شاء أن يُـمضي “المصطفى” اثنتي عشرة سنة في أورفليس (سنواته في نيويورك: 1911-1923حتى صدور “النبي”)، وشاء بالإنكليزية استخدام كلمة “أيلول” (لا “سـﭙـتمبر”)، وشاء أن تتَّجه سفينتُه عائدةً صوب الشرق (وفي حنينه: صوب لبنان)، وختَم خطبة الوداع: “قليلاً وترونني وقليلاً ولا ترونني لأن امرأة أخرى ستلدني” (وقد تكون عودته إلى الحياة في لبنان).
هذه بعض علاماتٍ ساطعة على علاقته بلبنان، سُرّةً أُموميةً لم ينفصل عنها طوال سنواته الأميركية الخمس والثلاثين.
لذا يصدُقُ أَن يكونَ غادر لبنان ذات يوم، لكن لبنان لم يتركه أَيَّ يوم.