هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1035: “الـنَّـأْيُ بالـنَّـفْـس”

الحلقة 1035: “النَّأْيُ بالنَّفْس”
الأربعاء 15 شباط 2012

تُطالعُنا هذه الأيام عبارةٌ جديدةٌ في قاموسنا السياسي، هي: “النأْيُ بالنفْس”، كما لو انها مهربٌ منطقيٌّ أو مقبولٌ أو مُبَرَّرٌ للخروج من زنقةٍ سياسية أو أمنية أو پروتوكولية.
“النأْيُ بالنفْس”… يعتمدها لبنان في مَحفل دُوَليّ، ويعتمدها سياسيون من لبنان في مَحفل مَحلي، كأنهم بذلك يغسِلون أيديهم من دَمِ صِدِّيقٍ لا يُريدون – أو لا يُسْمَح لهم بأن يريدوا – الدخولَ في قضيّته دفاعاً أو مناهضةً أو اتّخاذَ موقف.
“النأْيُ بالنفْس”… وينجو النائي بشخصه غيرَ مُهتَمٍّ إن كان في نأْيه يُنقذ – أو يغْرقُ – الوطن.
“النأْيُ بالنفْس”… وتُصبح النفْس هنا حُجَّةً أو مَنْفذاً أو جسرَ عبورٍ من المأزق إلى الخلاص.
هل من فارقٍ بين “النأْيِ بالنفْس” و”النأْي بالجسد”؟
لَم نَنْسَ بعدُ حادثةَ السفينة السياحية الإيطالية “كونكورديا” التي (في 15 كانون الثاني: قبل شهر تماماً من اليوم) أَدخَلَها قبطانُها ليلاً في زقاق بَحريّ ضيّقٍ قبالةَ جزيرة “إيغليو” فاصطدم جنْبُها بالصخر وتَسرّبَت إليها المياه، حتى إذا شعَرَ قبطانُها فرنتشيسكو سْكِيتّينو ببداية غرقها، التَفَّ بِحرامٍ واسعٍ واندَسَّ بين الركاب فامتطى قاربَ نَجاةٍ هبط به إلى المياه وسَبَحَ حتى بلغَ الشاطئ تاركاً ركّاب السفينة يتلاطمون للهرب، أو يَختنقون في المياه المتسرِّبة، أو يقفزون إلى البحر فيموتون غرقى، وهو ناجٍ على الشاطئ، كاذباً على المرصد البحري مُوهِماً برج المراقبة بأنه ما زال على متن السفينة يساعد في إنقاذ الركاب.
صحيحٌ أن الشرطة عادت فاعتَقَلَتْهُ وَرَمَتْه في زنزانة انتظار مُحاكمته القاسية، لكنه مارس “النأْيَ بالنفس” نائياً عن 4229 راكباً، بينهم 1013 ملاّحاً على السفينة، نائياً عن مسؤولياته القيادية بتسهيل نجاة الركاب. مارس “النأْيَ بالنفْس” فنأى بِجَسَده ونفْسه على قارب النجاة وأَنقذَ جسَده ونفْسه من الغرق، وليغرقْ بعده مَن يغرق من الركاب.
هذا هو “النأْيُ بالنفس” عند النائي بنفسِهِ، ولْيَغْرقْ بعدَه الوطنُ وشعبُه ومصيرُه.
“النأْيُ بالنفْس”… و”النأْيُ بالجسَد”. لا فرْق بينهما.
وفيما مسؤوليةُ القبطان أن يرعى سفينتَه، ومسؤوليةُ القائد أن يرعى شعبه، ومسؤوليةُ المسؤول أن يرعى وطنه، يزاول القبطان “النأْيَ بالنفْس والجسَد”، ويمارس القائد “النأْيَ بالموقِف”، ويرتَجل المسؤولُ النأْيَ بالوطن، وما هَمَّه بعدَها المصيرُ من هذا النأْي: هل يغرقُ الوطن بسبب هذا الموقف، أو ينجو من الخارج ويتخبَّط في الداخل، أم يُنقَذُ الداخلُ من خطر الخارج.
“النأْيُ بالنفس” عبارة جديدة موديل 2011 – 2012.
وكلُّ نأْيٍ والقائدُ بِخيرٍ على شاطئ الأمان! المهمُّ أن يَنأى بنفْسه عن قيادة الوطن، وما هَمَّ بعدَه إن كان مصيرُ الوطن كمصير ركّاب السفينة “كونكورديا” في تلك الليلة الرهيبة التي قرَّر فيها قبطانُها الأَشْوَس أَن يُمارِسَ سياسةَ… “النأْي بالنفْس”.