هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1006: كأنه يَتـَثــَــعــْـلـَبُ مع الموت (محمود مبسوط)

الحلقة 1006: كأنه يَتَثَعْلَبُ مع الموت
الأربعاء 27 تَموز 2011

بغياب محمود مبسوط، لا ينطوي مُجَرَّدُ وجهٍ من أعلام الكوميديا في لبنان، بل يغيب معه وجهٌ طريف مُحَبَّبٌ من وجوه طفولتنا وصبانا مع مطلع الستينات، أيام كان لنا موعدٌ مشوِّقٌ مع حلقة “أبو سليم الطبل وفرقته” فرحاً ننتظره من أسبوعٍ إلى أُسبوع، نتجمّع لأجله حول شاشة “شركة التلفزيون اللبنانية” يومها، وكانت في مطالع عهدها، وكان برنامج “أبو سليم” من أكثر برامِجها استقطابَ مُشاهدين مع برنامج أديب حداد “أبو ملحم”.
كنا نفرح بـ”فهمان” يَتَثَعْلَبُ في تلك الحلقات من دون أن يَجرَح، ويَخترع المقالب من دون أن يؤذي، حتى باتت شخصيتُه جُزءاً من حديث الأولاد طوال أسبوع، يُحاولون تقليده لُكْنةً وشخصيةً وطريقة تعبير.
من موهبته الفطرية الوثقى أنْ كان يرتَجل على الشاشة، وكان البرنامج في مطالعه مباشَراً على الهواء، حتى كان أحياناً يُربك زملاءه حين يَخرج عن النص ويُضِيعُ خيط السيناريو، لكنه سرعان ما يعود فيستوي معه النص بعدما يكون مـرّر “قفشةً” كوميدية خطرت له في السياق.
كأنه وُلِد ليكون كوميدياً، وكان يعرف كيف يبلغ بالكوميديا حدّها الأقصى من دون تهريج، وبالڤودڤيل حدَّه الأقصى من دون سذاجة، وبالهزل حدّه الأقصى من دون مبالغة منفِّرة.
كان يعرف. وحين يعود فينضبط في دوره، يبقى مُحافظاً على كاراكتيره المعروف، فيخلق من داخله إطاراً للضحك يضفي على الدور فيه شخصيةً تبقى ضمن إطارها وتتطوّر من داخل.
حين أسند إليه عاصي الرحباني دور “عزّو” في فيلم “بنت الحارس” أدّى دوره الكوميدي الطريف من دون أن ينحو به صوب شخصيته “الفهمانية”، فأثبت أنّ له حضوراً واثقاً خارج شخصيته التلڤزيونية الأليفة، ما يُثبتُ قدرته على التكيُّف الكوميدي من دون أن ينحبس في شخصية واحدة لا يعرف الخروج منها.
وطوال ما يزيد عن نصف قرن، ظلَّ على المسرح الكوميدي، أمام الكاميرا أو على الخشبة، مواصلاً حياكته نسيجاً بارزاً في ذاكرة الكوميديا اللبنانية، يضيفها إلى ما نسجه موهوبون قبله في كاراكتيرات راسخة مثل شوشو أو نبيه أبو الحسن أو الياس رزق أو سائر الذين أرّخوا للمحفوظات المسرحية الكوميدية في لبنان ذاكرةً لا يَمحوها زمن.
قبل أَيام، سأله رفيق عمره صلاح تيزاني أن يهدأ قليلاً من التعب ويرحم صحته، فأجابه أنه مرصودٌ على المسرح ولن يهدأ حتى يسقط على الخشبة. وها هو، أول من أمس، الاثنين، بلغ متمنَّاه، وسقط على الخشبة وهو في أوْج أدائه دورَه المسرحي الساخر، فكأنه سخِر حتى من الموت الذي غافله في لحظة عطائه الكوميدي.
لكأنه، محمود مبسوط، واجه الموت مبسوطاً مرتين: أُولى أنه التقاه على المسرح، والأُخرى أنه حقق حلمه ألاّ يهدأ حتى يسقط على الخشبة مبسوطاً من تحقيق حلمه الأقصى.
ذات أمسية، قبل ارتفاع الستارة ببضع دقائق، جاء من يُخبر موليير أن طفله الصغير المريض أسلم الروح، وسأله إن كان يرغب في وقْف العرض ليلتئذٍ، فأبى، ويقال إن موليير، تلك الليلة، أضحك جمهور مسرحيته “النساء المتحذلقات” كما لم يُضحكه في أيِّ عرض سابق. ذلك أن الفنان الذي فيه تَغَلَّب على عاطفة الوالد المفجوع.
أول من أمس، الاثنين، حين جاء الموت يَخطف محمود مبسوط، كأني به واجهه بغمزة كوميدية من غمزاته المألوفة، وراح معه وهو يَتَثَعْلَب، علّه يُحضِّر للموت مقلباً من مقالبه “الفهمانية” الأليفة.