هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

993: التعدِّي على الذاكرة الجماعية

الحلقة 993: التعدِّي على الذاكرة الجماعية
الأربعاء 27 نيسان 2011

وَسْط موجة التَّعَدّي على الأملاك العامة في غير منطقةٍ من لبنان كانت غائبةً عنها سلطةُ الدولة،
أَطلَّ علينا تَعَدٍّ جديدٌ لا يَطال الأملاك العامة وحقوقَ أصحاب الأملاك وحسْب،
بل يَطال ذاكرةَ لبنان وتراثَ لبنان وتاريخَ لبنان الحضاري.
ذلك أنّ خبراء الآثار اكتشفوا في منطقة ميناء الحصن، شرقِيَّ فندق فينيسيا،
ما يُرَجِّحونَ أنه أوّلُ مَرفإٍ فينيقي في بيروت، يعود إلى الأَلف الأَوّل قبل الميلاد.
وفي الموقع دلائلُ على معالِمَ أثريةٍ لِمُنشآتِ ميناءٍ نموذجية،
ومبنىً ضخمٌ من العصر الروماني
يُرَجَّح أنه أساسات معبدٍ كبيرٍ من معابدَ مشابهةٍ تعُجُّ بها أرضُ بيروت وأراضٍ أخرى في لبنان.
والحاصل أن شركةً عقارية تَملِكُ تلك المِساحةَ الواسعةَ التي في جُزءٍ منها معالِمُ هذه الآثار الفينيقية،
بدأَتْ تَتَهَيَّأُ لإقامة بُرْج عصريٍّ جديدٍ شاهقٍ
يطمُسُ أساسُه تلك المعالِمَ،
ويَطمُرُ صفحةً صارخةً من تاريخ لبنان.
ولم تُفْلِحْ حتى اليوم مُحاولاتُ مديرية الآثار
في تعديل المُخطَّطِ العامٍّ للبناء الشاهق المنويّ بناؤُه على هذه المِساحة،
لإنقاذ هذا الكنْز الأثري الذي قد يُضيء على فجرٍ آخَر من ماضي لبنان الحضاري.
لا نَجزُم هنا في هُويّة ما ظَهَر،
حتى تَصدُرَ تقارير الخبراء
فتفصلَ إن كانت هذه فعْلاً معالِمَ أوّل مرفإٍ فينيقي،
يشير إليه الْمُنْزَلَقُ المنحدِرُ صوب البحر لسَحْب السُّفُن أو تَحميلها أو إنزالها إلى المياه،
فتتَّضِحَ عظمةُ بيروتَ الأمس،
بيروتِنا الغاليةِ التي هي “أُمُّ الشرائع”،
وكم يتَّضح – فصلاً بعد فصل – أنها أُمُّ تاريخٍ عريقٍ كانت خلالَه بيروتُ مدينةً تستقطب عظماء العالم.
نتجاوز الحدَثَ وحيثيّاته،
لنُعايِنَ مرةً أُخرى ما يَحصلُ عندنا من تَعَدٍّ على آثارنا في بيروت والجنوب
ومناطقَ لبنانيةٍ تتسيَّبُ فيها آثارُنا الكنوزُ معرَّضَةً للنَّهب والشمس والأعشاب البرية ورعاية المواشي،
وليس من يسأل وليس من يهتمّ.
التعدِّي على أراضي أملاكٍ عامة تابعةٍ للدولة بعدما كانت مَشاعاً سائباً أهملتْهُ الدولة،
أمرٌ تعالجه الدولة لاسترداد أراضيها.
لكنّ الأخطرَ هو التعدِّي على كُنوز آثارٍ شواهدَ لا يُمكن استردادُها إذا زالت:
جدراناً وصخوراً وحجارةً وأعمدةً وهياكلَ وبقايا.
فهذا ليسَ تَعَدِّياً على أرض الدولة وحسب،
بل يتّفق ومقولة العالِم الفرنسي پرودون إنّ “الْمُلْك هو التعدّي”
بمعنى أَنّ تَمَلُّكَ هذا أو ذاك من معالِمنا الأثرية،
هو التَّعَدِّي الصارخُ على الذاكرة اللبنانية،
على حضارة لبنان،
على مَخزون لبنانَ الثقافيّ الذي حَفِظَتْهُ لنا الطبيعةُ آلافَ السنوات شاهداً على الأمس،
وها أَيدي لبنان اليوم تَتَمَلَّكُهُ أو تَغْتَصِبُهُ أو تُهَدِّمُهُ أو تُهَشِّمُهُ
لتَمحو ذاكرةً
ليست مُلْكَ الدولة (ولا خصوصاً هذه الدولةِ اليوم)،
بل هي مُلْكُ لبنانَ الشعبِ والإرثِ والتاريخ،
وتالياً مُلْكُ كلِّ لبنانيٍّ أمسِ واليومَ وكلَّ يوم،
لأنّ الْمَعْلَم الأَثَرِيَّ ليس شاهداً على الماضي وحَسْب،
بل هو فَجْرٌ دائمٌ يَتَهَيَّأُ كُلَّ يومٍ ليُشرِقَ شاهداً على لبنان المستقبل.