هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

690: قدر لبناني عنوانه… غسان تويني

أ ز ر ا ر
قدر لبناني عنوانه… غسان تويني
السبت 9 نيسان 2011
– 690 –

بذهنٍ يقطُر ألَماً مُكابراً، وصوتٍ يغُصُّ بِضربات القدَر، أدلى غسّان تويني بأَحاديثَ جمعها الكاتب الفرنسي جان فيليب دو تونّاك (Jean-Philippe de Tonnac) في كتاب (Enterrer la haine et la vengeance – Un destin Libanais)، وصدَرَت له ترجمةُ جان الهاشم إلى العربية عن “دار النهار” بعنوان “فَلْنَدْفِن الحقد والثأْر – قَدَرٌ لبناني”.
لَم تَأْتِ لغةُ الكاتب – وبعدَه المترجم – بعيدةً عن نَفَس غسان تويني في الكتابة، ولا عن أُسلوبه السَّهم في رشْق المعنى الوسيع بأقلّ كلماتٍ تخترق الذهن والقلب في موجةٍ من نسيج كبار الكتّاب في العالم.
توطئةُ الكتاب من “الدوحة” عند افتتاح متحف الفنون الإسلامية في قطر، وفي معرض “حوار الحضارات” حين اكتشف غسان تويني لوحة “السيّدة العذراء” بريشة جنتلي دي فابريانو (من القرن الخامس عشر) وعلى ثياب العذراء آياتٌ قرآنية، فسمَّى تويني تلك اللوحة “عذراء الصفح والحوار”.
ويعقّب على ذلك: “رافقَتْني صُوَرُ القدّيسين طَوالَ حياتي، وكلما تقدَّمتُ في السن أَحسسْتُ بوجودها أكثر. أَتَحاور معها كلَّ يوم كما أَتَحاور مع صُوَرٍ مرصوفةٍ على مكتبي في جريدة “النهار”، لأَحبةٍ انتزعهم مني القدر، بطريقة بربرية أحياناً: والدي جبران ووالدتي، وصُوَرِ وَلَدَيَّ جبران ومكْرم، ووالدتِهما ناديا وابنتنا نايلة، أُكلِّمهم عبر تلك الصُّوَر ويكلِّمونني، وأكشِف لهم عن مكنونات قلبي”.
من هذه التوطئة الناضحة وجدانيةً تتسلسل فصولُ الكتاب الاثنا عشر على إيقاع غسّان تويني، بدءاً من وداع بكْره جبران ووقوفه أمام جثمان ولده القتيل مُعلناً الصفحَ والغفرانَ وعدمَ الثأر لاغتيال ابنه الشهيد. ويواصل الكتاب فصولَه: اكتشافُ صاحبه الإيمان، وصولُهُ نائباً وهو في الرابعة والعشرين، لقاؤُه الصبيّةَ ناديا علي حمادة في أثينا وزواجه منها، سلسلةُ اعتقالاته ناشطاً حزبياً فصحافياً جريئاً، تَجارِبُه وزيراً وسفير لبنان في الأُمم المتحدة وإطلاقُ صرخته الشهيرة “أتركوا شعبي يعيش”، تحيةٌ إلى أساتذته في الحياة والفكر، استذكارُ ولَده مكرم شاعراً، نضالاتُه المتتاليةُ الكثيرةُ جداً في “النهار”، والثلاثةُ الفصول الأخيرة: “مسيحيُّو الشرق”، “مستقبَل الشرق الأوسط”، “إله واحدٌ في منازلَ متعددة”، فخاتمةٌ للكتاب وجدانيةٌ عميقةٌ بعنوان “أنا… ذلك الآخر”.
بعد هذه الفصول ملاحقُ ضَمَّت خمسةً من مقالاته في “النهار”، أَوَّلُها كَتَبَه ليل 14/15 أيار 1948، وأخيرُها كتبَه في 24 تشرين الثاني 2008.
هذه الدعوة إلى دفن الأحقاد وإطفاءِ الغضب، قالَها في أصعب لحظةٍ يواجهها أبٌ أمام جثمان ولده، أمثولةٌ نادرة في هذا العصر الذي تتآكله الثورات الحاقدة والانتفاضات الغاضبة الڤانديتيّة. والأجدر أن نتعلَّم من غسان تويني تسامح الأحرار مقابل انتقام الحاقدين، وغفران الأقوياء مقابل ضغينة الضعيفي النفوس. فالعُنف ليس علامةَ قوّة، بل القوةُ في نبذ الأحقاد وفي الانفتاح على الآخرين بمنطق الحوار المتنوِّر، وبذهنية اللقاء المجْدي الذي يوصل إلى حلول تُرضي كلّ فريق.
أهمية هذا الكتاب، اليوم وكلّ يوم، أنه علامةٌ ساطعة لقدَر لبناني قاسٍ واجهَهُ كبيرٌ من عندنا بشجاعةٍ ميتولوجيّةٍ نادرة.
صَعبٌ هو اختصارُ غسّان تويني في كتابٍ له أو منه أو عنه. والأصعبُ: اختصارُ غسّان تويني في نصٍّ حول كتاب له.
إنما ليس من الصّعب الانحناءُ احتراماً وإكباراً أمام قامةِ هذا الكبير الذي يَختصِرُ في ذاته صوتَ شعبٍ، ومساحةَ وطنٍ، وفضاءَ تاريخٍ لا يُمكنُ أن يكتبَه أحدٌ عن لبنان القرن العشرين من دون التوقُّف عند دَوِيٍّ غيرِ عاديّ، في قلمٍ غيرِ عاديّ، أَطلعَ نصوصاً تَبْني وطناً في حجْم طموحات غسّان تويني.