هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

توقيع “لغات اللغة” في أنطلياس (11/3/2011)

كلمة الأستاذ حنا أبي حبيب في إدارة ندوةٍ حول كتاب الشاعر هنري زغيب
“لُغات اللغة – نُظُم الشعر والنثر بين الأصول والإبداع”
الحركة الثقافية- أنطلياس – الجمعة 11/3/2011

“لُغات اللغة” عنوانٌ يشي بالغرابة والفرادة: أهي إضافة مقلوبة؟ أم صياغة مرْبكة تصدم السامع منذ الوهلة الأولى؟
سرعان ما يأتيك الإيضاح: “نُظُم الشعر والنثر بين الأصول والإبداع”.
هكذا عوَّدَنا هنري زغيب على شدّ الأحزمة وجذْب الأسماع سواءٌ في نحتِه بيتاً من الشعر، أو في هندسته جملةً من النثر.
كأنه، مذ كان، هذا المُغرَم بعجائب الحرف وتجليّات الكلِم، قلِقٌ على ما آل إليه بعض الشعر والنثر من إسفافٍ وانحدارٍ، في زمن تكاثر فيه الفريسيّون، وانتهكوا حرَم الكلام، فكان هذا الكتاب ردّاً على ادعياء، وتصويباً لمسار، وتقويماً لاعوِجاج، وعَوْداًَ الى المنابع، حيث ألَقُ الأصيل وانحسار الدخيل.
نعم: إنّ ما نقرأه في هذا الكتاب، هو حصيلةُ خبرةٍ من سنوات العمر مع الكتابة، وخلاصة تجربة صاحبه مع الشعر. أَوَلَيْسَ “أهلُ مكّة أدرى بشعابها”؟!
ومهما حاول المؤلف أن يبرِّئَ كتابه من كونه كتاباً في النقد أو البحث أو الدراسة وفق منهج اكاديمي، والتبرئة لها ما يسّوغها، لكنه في المحصّلة كَمٌّ هائل من الآراء والأحكام النقدية، يسوقُها الى القارئ من منظارٍ شاعرٍ وكاتبٍ وباحثٍ، اختمرَت فيه ثقافةٌ موسوعيةٌ في النقد الأدبي، بعد أن مارس الكتابة دفقاً إبداعياً في كل ما سطَّر، جامعاً بين القديم والجديد، فأتى باب الابتكار من دون أن يعبث بالأصول. وإلا فلِمَ الكلام؟!
كل مقطع من مقاطع هذا الكتاب يستدعي التوقُّف والتأمل والتذوّق.
وهنري رغيب يباغتك بألفاظه المنتقاةِ حيناً، والمنحوتةِ حيناً آخر، وَهَمُّه الوصولُ الى “الجماليائيّ” الى اللقطة الإبداعية، وقدَرُ الشاعر أن يُجَدِّد في اللغة، و”المباغتةُ الجمالية”، كما يقول هنري زغيب، من أسرار الشعر. بل هي المفتاح.
هكذا يغدو الشعر “لقيّات”، وخارج هذه اللقيّات يستحيل الشعر نظْماً بليداً لا يُنقذه النظم السليم.
ولا يظنَّنَّ أحد أن الإبداع هو في اتِّباع الأُصول فقط، إنما هو في الخروج منها، بعد تمثُّلها لا عنها، الى العملية الإبداعية.
وكما في الشعر، كذلك في النثر. وليس للنثر ولا للشعر كتابةٌ واحدة أو شكلٌ واحد أو لغةٌ واحدة، بل لُغات. ومن هنا تسمية الكتاب. فللنظم الموزون المقفّى لغةٌ، وللشعر الجمالي لغةٌ أخرى. كما للنثر العادي لغتُه وللنثر الجمالي لغةٌ أخرى، كأنَّ اللغة الواحدة تتفجَّر لغاتٍ في أقلام مبدعيها.
قد يقول قائل إن هنري زغيب لم يأتِ بجديد. فمن يستقرئ نقدنا الأدبي، من الجرجاني قديماً إلى جبران ونعيمه حديثاً، إلى أنطون غطاس كرم وأدونيس وغيرهما معاصراً، يرَ أن الشاعر هنري زغيب يتلاقى مع هؤلاء المجدّدين في كثير من الأحكام. ولِم لا ؟ فالمؤلف جال في الآداب العالمية، وأتحفنا بكثيرٍ من روائع الشعر العالمية. من هنا هذا الحشد الهائل في متن الكتاب وحواشيه لشعراء وكتّاب، جُلُّهُم من عصر النهضة والحداثة، يعرِّف بهم إمّا لُمَحاً، وإما بإضاءاتٍ سريعةٍ على إبداعاتهم وإضافاتهم الأدبية، وكلّ ذلك لتأكيد ما رمى إليه من كشفٍ لأسرار الإبداع.
أراني، في الوقت المتاح لي، لم أقل إلاّ القليل القليل، ولو أُعطِيتُ وقتاً أَرحب، سأبقى مقصِّراً مهما أَطَلْتُ، وأخشى أن يَحجب عنكم غبارُ الكلام تَوَهُّجَ الأصيل.

—————————————-

مناقشة كتاب “لُغاتُ اللغة” لـ هنري زغيب
الحركة الثقافية – أنطلياس (11 آذار 2011)
د. زَهِيدَة درويش جبور

“لغات اللغة” هو إعلان إيمان وثقة بالشعر ومستقبله من جهة، وإعادة اعتبار للنثر كفن إبداعي لا يقلّ عنه قدرة على توليد الإحساس بالجمال من جهة أخرى. إنه استجابة لشعور يلح على الكاتب بضرورة الردّ على الفوضى الحاصلة على الساحة الشعرية المعاصرة، بإعادة الأمور الى نصابها، وتحديد المعايير، وتأصيل الأصول؛ وهو خلاصة تجربة طويلة في تعاطي الشعر إبداعاً وغوصاً وراء تجلياته عبر الآداب واللغات والمدارس المختلفة. إنه بحث في نظريات الشعر والنثر كُتب بلغة تخلو من التعقيد وأسلوبٍ له من الشفاهة عفويتها وبساطتها، فالهدف الأساسي إيصال الفكرة واضحة وترسيخها في ذهن القارىء. وما يمكن رصده عبر الفصول من تكرار في الآراء والمواقف إنما يصدر عن هذا الهاجس، ويضفي على الكتاب طابعاً تعليمياً لا يقلّل من قيمته بل يجعله مفيداً للطالب الجامعي، وللقارئ العادي، ودليلاً يرشد الراغبين في دخول مغامرة الكتابة الشعرية الى كيفية التعاطي مع اللغة وكيفية تحويلها من مجرد وسيلة تعبير الى أداة إبداع.
من جهة أخرى، يبدو الكتاب ذاتياً بامتياز، إذ لا يتردد في اعتماد ضمير المتكلم، وهذا أمر غير مألوف في لغة البحوث النظرية. وهو مدرك شذوذَه عن هذه القاعدة وسارع الى إعلان ذلك منذ الصفحة الأولى حيث يصف كتابه بأنه “بث انطباعي، حصيلة خبرتي، وخلاصة تجربتي”. ربما يكون هنا مكمن اختلاف هذا الكتاب عن معظم البحوث النظرية، وما يجعله جذاباً للقارىء العادي، ولكنه قد يشكِّل في الوقت نفسه مثار انتقاد الأكاديميين المتشدّدين في المحافظة على لغة التجريد والتنظير.
يحدد المؤلف مقاصده في المدخل قائلاً: “هذا الكتاب كي أعلن موقفي مع الشعر كما أشعر أن يكون شعراً”، جاعلاً من ذات المتلقي معياراً أساسياً لا بل وحيداً للشعر، لكنه ينطلق بعد ذلك على مدى 174 صفحة متحدثاً عن المعايير الموضوعية، والتعريفات والمفاهيم الشعرية وشارحاً الفروقات بين الشعر والنثر من دون مفاضلة بينهما، فهما يتساويان في الجمالية.
سأحاول في هذه المداخلة أن أستعرض القضايا التي تناولها الكتاب، وأن أُبَيِّن في الوقت نفسه ما بدا لي أنه إشكالي في بعض المواقف والآراء.
أولاً: في ماهية الشعر ودَور الشاعر
تختلف التعريفات وتتعدد المحاولات لتحديد ماهية الشعر، لكن يمكن اختصارها في اتجاهين كبيرين: الأول يعتبر أن الشعر وحي وإلهام وأن الشاعر يكتب ما يملى عليه من لدن قوى خفية (آلهة الشعر عند اليونان والعرب القدماء، اللاوعي عند شعراء السريالية مثلاً)، والآخر أنه اشتغال وصنعة (بوالو وماليرب وشعراء الكلاسيكية في القرن التاسع عشر أو مدرسة الفن للفن أو المدرسة البرناسية في فرنسا في القرن التاسع عشرعلى سبيل المثال). ولا يقتصر هذا الاختلاف على مرحلة تاريخية معينة أو على ثقافة دون غيرها، ولا يزال الجدل قائماً الى اليوم. فأين يقف هنري زغيب من ذلك وأي موقف يتبنى؟ وما هو تعريفه للشعر؟
– “الشعر الشعر هو ترصيع البيت – كل بيت إذا أمكن- بما يرفعه الى لذة المباغتة الجمالية. وهذه تكون بكسر المتتاليات النفسية والذهنية، فلا ترد في البيت كلمات مألوفة في أقوال دائرة أو أمثال سائرة.”
– “الشعر الشعر: تَوَقُّعُ اللامتوقَّع في الصورة أوالمفردة أو القافية”.
– “تبديل كلمة واحدة في البيت من مكانها المألوف الى مكانٍ قبل أو بعد، يخلق لها لمعة أبرع أو موسيقى للبيت أجمل، وتنقلها من السرد العادي الى اللقطة الإبداعية”.
– “تقديم فاعل أو تأخير مبتدأ، يرصع البيت بنصاعةٍ جمالية ويجعل الصورة أبهى”.
هذا كلامٌ ظاهرُه اختصار هوية الشعر في أنه تعبير جميل، شرطُه امتلاك ذائقة فنية ومجموعة تقنيات وقواعد تسمح بتوليد الإحساس بالجمال، واختصار الشاعر في أنه حرفي ماهر، أو صائد “لقيّات” – واللفظة من “لقيّات” هنري زغيب الجميلة- ، بينما يرى شعراء كثُرٌ خلافَ ذلك. فالشاعر بحسب صلاح ستيتية ليس إلا مجرد “رامٍ أعمى” كون الهدف الذي يصوِّب نحوه السهم يبقى ملتفّاً بالغموض، ما يجعل الكتابة الشعرية مغامرة في المجهول، ومن التوتر والشك والقلق حالةً ملازمة للمسكونين بسرها.
يتبنى هنري زغيب تعريف فاليري الشعرَ من جهة، “الشعر جهد واشتغال”، لكنه من جهة أخرى يؤكّد أنه “نعمة لا يؤتاها إلا الأصفياء” (ص46). “إنه برق وميض يترك فيك رعداً كثيراً” (ص47). ربما يجد البعض تناقضاً بين الموقفين، لكن الكاتب يؤكّد أنها على العكس علاقة تكامل. وهو مُحِقٌّ في ذلك. فالقصيدة لا تولد جاهزة، إنما تلمع في كثافة لحظة هاربةٍ ما إن يشرق فيها المعنى-الرؤيا-الصورة حتى يتلاشى تاركاً للشاعر الصائغ هذه المرة – وهو الوجه الآخر للرائي- أن يكمل المهمة. فكل شاعرٍ هو راءٍ وحرفِيُّ إبداع في آنٍ. ليس شاعراً مَن لا حدْسَ عنده، وليس شاعراً كذلك من لا يحسن فن صياغة الكلمات لآلئ.
جوهر الشعر حالةٌ لكنه أيضاً لغة داخل اللغة، أو بالأحرى هو لغة المغايرة، لغة التخوم التي يختارها مدمنو الترحال سكناً، تلك التي تصيِّر الكلمات جسداً وتُحيلُها حضوراً، أو – كما يقول هنري زغيب في تعبير مجازي – يشفّ عن إحساس مرهف بالحروف والكلمات “كرةً أرضية كاملةً، قارّاتُها الحروف”.
الشعر إذاً موهبة وصنعة في آنٍ، حدس وجهد، برق ونحت. فمن يقرأ مثلاً قصيدة لفؤاد غبريال نفاع، أحد كبار شعراء الفرنكفونية في لبنان، يشعر بانبهار لا يتولّد عن انفعالٍ آني بقدْرما يصدر عن دهشة الإحساس بالجمال لما في القصيدة من حُسْن إتقان في البناء، وفي تشبيك الصور، وفي إخراج اللغة عن سياقاتها المألوفة وما تشعُّ به من ومضٍ يصعب القبض عليه أو ترجمته الى كلمات لأنه يصدر عن حدس ولا يمكن التقاطه إلا بالحدس. فهو قائم في الصمت. وهذا هو الفرق الكبير بين تَذَوُّق القصيدة، وتناوُلِها بالنقد والتحليل. كل ناقدٍ قصيدةً يجد نفسه أمام هذا المأزق: أن يوازن بين الاستسلام إلى متعة التذوق، والالتزام بموضوعية الدرس والتشريح.
أما الشاعر، من وجهة نظر المؤلف، فهو الرسول، والضمير، والمشعل، والقائد، والوازع، والقابض على المستقبل، إنه كل هذا!! لكن ألا يَشي ذلك بمحاولة للتوفيق بين نوعَين من الشعراء: الجماهيريين وشعراء النخبة، أو شعراء الالتزام وشعراء التجربة؟ شاعر التجربة مثلاً لا يطمح الى أن يكون قائداً أو وازعاً أو رسولاً، بل يعرِّف عن نفسه بأنه المشكِّك المقلق مشرِّع الأبواب على الأسئلة.
هذا المنحى التوفيقي أدّى أحياناً الى بعض الالتباسات: يتفق الكاتب مثلاً مع أدونيس الذي يتبنى ما راح إليه الجرجاني من أن المعنى نوعان: تخييلي وعقلي، ويرى أنْ حيث يكون النص قائماً على المعنى الأول يكون شِعراً، وحيث يكون قائماً على المعنى الآخر لا يكون شعراً وإن كان موزوناً مقفى” (ص 113). لكنه في الوقت نفسه يتبنى التعريف اليوناني الذي صوّر الشعر بأنه “عربة يجرها حصانان: العاطفة والخيال ويسوسها حوذي حكيم هو العقل” والذي بُنيت عليه كل النظرية الكلاسيكية للشعر وهي أولَت عناية كبيرة لوضوح المعنى. فالغاية هي الإقناع، والطريق إليه إثارة الإعجاب لا الخيال، والإحساس هنا وسيلة لبلوغ القصد.
ثانياً: في الكلاسيكية والحداثة:
لا يُخفي الكاتب انبهاره بعظمة الكلاسيكية “عابرة العصور الى نهاية العصور”،كما يقول، ويعلن أنْ لا إبداع خارجَها بل في داخلها ومن داخلها وإلى داخلها. ويبدي انزعاجه من كثرة المتطفّلين على الشعر ومنتحلي الصفة الذين ضربوا عرض الحائط بالقواعد والأصول فيُطلق الدعوة الى الالتزام بالضوابط كي لا تتحوّل الحرية الى فوضى ولا تسقط في الغوغاء. وكم هو مصيبٌ عندما يلاحظ أنّ “الإشكالات لم تكن مرة في التقيُّد بالقيَم بل في الخروج عليها. وأن ضياع هويتنا الشعرية شكلاً أدى الى خلخلتها مضموناً: حين تَقَنَّعْنا بِوَجْه سوانا، لساننا تعثر، وتغرَّبت لغتُنا، وبتنا نفتش عن وجهنا وصوتنا ولون عيننا” (ص45).
يذكّرني هذا الكلام بمقطع من رواية بالفرنسية لفرج الله حايك حيث يقول: “لقد غرقنا تحت كومة من الحضارات حتى أصبحنا في نهاية المطاف أشبه بالإوزة التي أرادت أن تتعلم مشية الحجل فأخفقَت في تَعَلُّمها، وليس هذا فحسب بل نسِيَتْ مِشيتها”. يتَّفق الروائي والشاعر- الكاتب على التنبيه من خطر ضياع الهوية إذا ما أغرقنا في الانفتاح على الغرب منبهرين بوهج الحداثة وبريقها. يغمز هنري زغيب في كتابه من قناة شعراء الحداثة في الخمسينات، وهُم استوردوا النظريات الشعرية الغربيّة، الأنكلوسكسونية منها أو الفرنسية، وتبنّوا قصيدة النثر، ودعوا الى التحرُّر من قيود الأوزان والقوافي، فشرَّعوا بذلك ساحة الكتابة الشعرية للمتسلّلين ومنتحلي الصفة. نعم، إن للحداثة شعراءها الكبار الذين لم يهربوا إليها استسهالاً ولا تقاعساً، بل خاضوا تجربتها متسلّحين بمعرفة عميقة بالأصيل من التراث الذي يبقى حيّاً ومعاصراً على الدوام. لذلك وضع أدونيس “ديوان الشعر العربي”. فالحداثةُ ليست زمنية، وإلا لما كنا نستمتع اليوم بقراءة المتنبي أو أبي نواس أو أبي العلاء ولما كان صوت أبي القاسم الشابي يصدح اليوم في حناجر الشباب العربي الثائر، مع أنهم صاغوا الشعر في قوالب أوزان الخليل. لذلك يدعو هنري زغيب الى عدم التسرُّع في التصنيفات، فليس كلُّ شعر غير كلاسيكي “شعراً حديثاً”، وليس كلُّ الشعر الكلاسيكي شعراً تخطاه العصر. وهو وإن بدا غير متحمس للشعر الحديث، يتفق مع شعراء الحداثة في كثير من الآراء: القصيدة بناء متماسك، وحدة عضوية: “القصيدة الكلاسيكية لا تقتصر على بيت يلتمع بعد سلسلة أبيات بليدة قبله، بل هي أن يبني شاعر قصيدته في تصاعد متتالٍ حتى يبلغَ قمةً في بيت، ثم يعود فيبني من جديد بلوغاً الى قمة أخرى”، الشعر حضور في العالم: “الشعر يمارَس ويعاش”، الشعر لغة: “الشعر هو الكلام المغاير بين الكلام السائد والمألوف”، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يختلف هنري زغيب في موقفه عن شعراء الخمسينات حين يقول: “في المرحلة الراهنة من تاريخنا الشعري، نجدنا في حاجة الى إعادة النظر في كل شيء، وفي كل أحد. باتت تلزمُنا قراءةٌ جديدةٌ في إطار جديد يكون طريقنا نحو استعادة هويتنا الإبداعية وأصالتنا الشعرية تنقذنا من هذيانات تطالعنا، تسيء إلينا وإلى الشعر”. لعل الخلاف الأساسي يتمثّل في مسألتين: “الإيقاع الداخلي” في القصيدة، وقصيدة النثر التي يصوّب اليها هنري زغيب سهامَه، معترفاً بجماليّتها، وفي الوقت نفسه رافضاً تصنيفَها في باب الشعر. لكن إن كانت اللغة مغايرةً في نصٍ ما، تعتمد على المجاز والتخييل، ولا تخاطب العقل بل تُقلق وتثير، وتفتح باب السؤال وتلامس الوجدان، لِمَ لا يكون النص قصيدة؟ لماذا “الرسولة بشعرها الطويل” ليست قصيدة في رأي هنري زغيب؟ لعلّ الجواب لأنها استعاضت عن الإيقاع بالإيقاع الداخلي، ولأن الموسيقى ضرورة في لغة الشعر.
ثالثاً في التمييز بين الشعر والنثر:
“للشعر القصيدة وللنثر النضيدة” يؤكّد الكاتب في مدخل مؤلفه متشدداً في التمييز بين الشعر والنثر فلكل من هذين الفنين خصائصه ونُظمه، ولكل منهما جماليّته. “الشعر فن عظيم في ذاته، والشعر فن عظيم في ذاته”. كلاهما ينتميان الى الأدب العالي بل هما، كما يقول زغيب بلغة الصورة: “توأمان متشابها الجذور، شريكان في كل صفة على مستوى الجذع، حتى إذا تفرعا أغصاناً وأفناناً استقلا شخصية وطابعاً وأصولاً ونهج حياة. يستقلان شكلاً ولا يكون للشكل (بسط الكتابة) أن يحدّد النوع (شعراً أو نثراً). النثر يبقى نثراً كيفما تمدد على المساحة البيضاء، والشعر يظل شعراً سواء اتخذ الشكل العمودي (صدر وعجز) أو انهمل تفعيلة دائرية، أو انتثر أفقياً حر التمدد على الصفحة”. هذا شرح يستدعي بعض الأسئلة: إن كان الأصل واحداً (أفهم بذلك التجربة، الحالة الخ)، وإن كان الشكل على الصفحة لا يحدد النوع، فما هو المعيار؟ أليست الحواجز هشةً بين الشعر والنثر الفني؟ ألا يسهل التداخل بينهما؟ أليس التشدد في الفصل بين الأنواع هو سير بالاتجاه المعاكس لمسارها المعاصر نحو الوحدة؟ ألم يبشر مالارميه منذ القرن التاسع عشر بوحدة الأنواع والفنون؟ ألا تبقى التصنيفات عاجزة عن القبض على جوهر الإبداع ومجرد قوالب تفرض عليه من خارج؟ أم أن تشدد زغيب في التمييز بين النثر والشعر نابع عن استنتاج لواقع أدبي تتراجع فيه كتابة النثر الجمالي ومحاولة لإعادة الاعتبار الى هذا الفن العريق في أدبنا العربي؟
إنها أسئلة أختم بها هذه المداخلة كي لا أضع نقطة على السطر وعلى أمل أن تفتح باباً للنقاش.

—————————————————-

حوارٌ لبعض المفاهيم حول الشّعر والنثر
إشكالية الثنائية في كتاب “لُغات اللغة” للشاعر هنري زغيب
محمد علي شمس الدين

في بحثه المضني حول ثنائية الشّعر والنثر، في كتابه “لُغات اللغة- نُظُم الشّعر والنثر” (دار الساقي 2011)، غالباً ما ينتهي الشاعر هنري زغيب إلى الالتباس الضروري الذي، من بدء الكتابة حتى اليوم أو قبل ذلك: من بدء اللغة حتّى اليوم، يظهر أنه الالتباس الكبير للكلمة.
والكلمة، ما هي؟ “في البدء كان الكلمة”. الكلمة لا مؤنّث ولا مذكّر. وهو يسوق سياقات كثيرة ويكتب فصولاً متنوّعة ليثبت هذه الثنائية فيجد نفسه واقعاً في واحديتها. كل ما يقوله في خصائص الشّعر: من المخيّلة حتّى الإيقاع، ومن الصورة إلى اللغة، ومن الفيض إلى الهندسة، يجد أنه يقول مثله، أو يقوله هو هو في خصائص النثر. فهنا وهناك “مباغتة جمالية” (ص 13)، وهنا وهناك “لَقيّات” (ص 15) وهنا وهناك “براعة سكب” (ص 16)،… وإذا كان الشّعر هو الـ”كيف”، على ما يرى أمين نخلة، “فالـ”كيف” في الشّعر هي نفسُها في النثر” (ص 18)، و”ليس للشّعر ولا للنثر كتابة واحدة أو شكل واحد أو جِرْسٌ واحد أو أرض واحدة أو عالم واحد. ليس للنثر وللشعر لغة واحدةٌ بل لغات، ولكل لغةٍ قاموسها والشكل” (ص 19). وهو ما يراه الباحث من المدخل حتّى خلاصة الخلاصة في السطور الأخيرة من كتابه “فما يقال في الشّعر يقال في النثر سواسية” (الصفحة الأخيرة 171). إلاّ أنه، في ثنايا الفصول ومفاصل الأفكار، يجنح إلى بعض اليقينيات القاسية، ويضع الحدّ بالسكين بين الشّعر والنثر، فيقول مقرِّراً بعد كل شيء وبرغم كل شيء: “الشّعر شعر والنثر نثر… والخلط بينهما يلغي إبداعيتهما معاً” (ص 163). وهذا ما قصدنا إليه بالالتباس. والالتباس هنا يرقى إلى مرتبةِ الإشكالية. ونعني بالإشكالية مشكلةً ليس لها حلّ. وما انتهت إليه التجربة الشعرية في الغرب إلى تسمية ملتبسة وإشكالية: “قصيدة النثر” vers en prose أو poème en prose، ليس سوى وجه من وجوه ثنائية قديمة متجددة ملتبسة ومحيّرة وبالتالي غير يقينيّة.
إنطلاقاً من كتاب هنري زغيب، يُمكن أن يُكتَبَ كتابٌ آخر يوازيه أو يزيد عليه، في الكتابة الإبداعية وما فيها من تفريع وتشبيك. والكتابةُ دائماً افتراضيةٌ وحوارية. ويمكن أن نختار بعض المفردات، أو بعض مفاتيح الكتاب، إما لنقاشها أو لتفريعها واستكمالها.
أهمية كلّ كتابة، في ما تطرحه من أسئلة أكثر مما تنتهي إليه من يقين. فنحن، في هذه المسألة، على مذهب أبي العلاء في الشكّ العظيم حيث يقول:
“أما اليقينُ فلا يقينَ وإنّما أقصى اجتهادي أن أَظُنَّ وأَحْدُسَا”
المفردات التي نناقشها في الكتاب هي التالية:
1- مسألة الأصول وعلاقتها بالحداثة الشعرية.
2- المصطلح وأهميته.
3- معنى الإيقاع.
4- النثر (الكلمات) وحقوله المغناطسية الجديدة (السرد/الرواية).
أولاً: في الأصول:
يميل هنري زغيب إلى ما أسميه “تقديس الأصول” أو “عبادة الأصول”. وهو يعتبرها كالشمس قديمة وجديدة وللغد وخالدة وواحدة. والشواهد على ذلك كثيرة في الكتاب: “هويّة الشّعر الالتزامُ بالأصول، فلنعتقْها” (ص 97)، “على كل عمل فنيّ أن تكون فيه ملامح كلاسيكية لضبطه بانتظامٍ عقلي وضوابط متعارف عليها” (ص 98)، “التقيّد بالأصول يحمي الأثر الفني من الاندثار” (ص 98)، “الخوارج على الأصول والثوابت والحقيقة فليشْرُدوا… سينتهون مغلَّلين بالفوضى والضياع” (ص 98)،… ويورد أقوالاً لناظم حكمت: “أُوصيكم بالأصول”، ولپول إيلوار ولويس أراغون،… وكلّها تنصح بالأصول بعد لعبة الخروج عليها. والسورياليون في فرنسا (من أندريه بريتون إلى رنيه شار وهنري ميشو وإليوار وأراغون… إلخ) أقصى ما مارسوه من خروج على الأصول الكلاسيكية واستهانة بعضهم بها حتّى القذارة أو اعتبارها ساقاً ميتة (مايا كوفسكي المستقبلي) أو هجاء المسرحي السوريالي أوجين يونسكو لفيكتور هوغو باعتباره “كلاسيكياً”،… كل ذلك عاد فانضبط على إيقاع الوصيّة بالأصول… لأن طفرة الشّعر الحرّ، على ما يرى روبرت فروست، “شبيهة باللعب بكرة المضرب من دون شبكة”.
ولكنْ، نحن شعراء هذه اللحظة وهذا العصر، ومن خلال الممارسة الشعرية بالذات، أيْ ممارسة النصوص الشعرية ونحن نعرف الأصول وأوغلنا فيها حتّى الينابيع، نسأل: “هل الأصول قبور لتُقدّس وتُعبد؟ ولماذا نَدَع الماضي يفترس الحاضر والمستقبل؟ ثُمّ: هل الأصول منظومة مقدّسة و”تابو” ككتب الدين، أو دهاليز الأهرام: كلُّ من يتجاوزها تزلّ به قدمه إلى قاع الموت”؟ ثُمّ: هل الأصول توجَد مرة واحدة وإلى الأبد فلا تهرم ولا تشيخ كالشمس؟ أم انها، بدورها، خاضعة لسُنَّة التطوّر والإضافة؟ إنّ الأصول ليست قبوراً ثابتة بل هي طائر في الزمان، ينفض ريشه ويحلِّق في فسحة لانهائية من الزمان ولا يدور حول ذاته كالوتد. والأصول على ازدياد وتحوّل، وهي في جدَل مفتوح مع ذاتها ومع العالم. وأساساً، وعلى خلاف ما يُظنّ، كانت اللاقاعدة في الشّعر العربي هي القاعدة الذهبية للتطوُّر الإبداعي، وهي مسألةٌ مرتبطة بالشاعر في تكوينه الحرّ، وفي اعتقاده بأنه الأكثر أهلية ليكون إماماً، حتّى أنّ أبا العتاهية، من العصر العباسي، حين سئل عن وزنٍ غير مألوف كَتَبَ عليه إحدى قصائده، قال: “أنا أكبر من الأوزان، وما يصلُني من الأصوات أمرٌ يَختصّ بي وحدي ولا يعرفه سواي”.
إن اختراق النسَق الشعري أمرُ شديد الأهمية في صيرورة الشّعر العربي من الجاهلية حتّى اليوم. وقد تحدّث النقاد عن القصائد الشاذّة الخارجة على عَروض الشّعر العربي، من بائية عُبيد بن الأبرص في الجاهلية (“أَقْفَرَ من أهله مَلْحُوبُ فالقُطَبياتُ فالذَّنوبُ”)، إلى ميميّة المرقّش الأكبر، إلى لاميّة عُديّ بن زيد العبادي، إلى أبيات أميّة ابن الصلت،… وجميعها صُنِّفت في باب الشاذ والمختلّ، مع أنها لـ”فحول” في الشّعر. وهناك أيضاً أوزان المولّدين الستة في العصر العباسي، وهي سُمِّيَت “عكس البحور” أو “مقلوب البحور”. ولو تتبّعنا هذه المسألة حتّى اليوم لوجدنا أنّ الخروج على الأصول سُنّةٌ في الشّعر العربي. ولكنْ كيف؟ إنّ ذلك يحتاج إلى دراسات نصيّة، وهل لهذا “الخارج” أو “الشاذّ” نظامٌ بدوره؟ التجديد الشعري العربي حركةٌ لا تنقطع، والمعوّل عليه هو النصُّ الشعري في ذاته “أياً يكن وزنه (…) وإذا تكرّر وغدا ظاهرة يصبح مؤسساً” (د. عبد المجيد زراقط- “الإبداع الأدبي العربي” – ص 112).
ثمّة من يرى أن التغَيُّر كان يطال عناصر في الشّعر، ما خلا الوزن، وأحياناً القافية. والوزنُ شرطٌ قديم للشعر. وهو في أساس نظرية الشعر العربية النقدية القديمة التي بُنِيَت على أساسٍ فلسفي، مثّلها الفارابي وابن سينا وابن رشد متأثّرين بنظرية الشعر عند أرسطو في كتابه المعروف عن الشعر، فهو في نظرهم يتأسَّسُ على التحام عنصرَين: المخيّلة (أو المحاكاة) والوزن. ولا بدّ من العنصرين معاً، فالوزن خصيصة قديمة للشعر، وهو نظام صوتي نبري.
هذه النظرة غالباً ما انتقدها الكبار في الشّعر والنظرية. يقول جلال الدين الرومي: “مستفعلن فاعلن قتَلَتْني”. وجَدُّنا الدهري الجاحظ يسخر من علم العَروض بقوله: “إنه علم مولَّد، وأدب مستبرَد، ومذهب مرفوض، وكلام مجهول، يستكدّ العقل بمستفعلن ومفعول، من غير فائدةٍ ولا مَحصول”.
هذا الضيق بقَيْد الوزن والقافية، تجاوزته العصور الحديثة بالانتقال من النظام الصوتي النبري للشعر إلى النظام النفسي أو إلى النظام الإيقاعي، وهو يختلف عن النظام الوزنين إذ إنّ للنثر إيقاعه أيضاً. وإنّ شاعراً واحداً، كالماغوط مثلاً، قادرٌ على أن يصنع للّغة ما لا يصنعه ألف نحوي ولغوي مجتمعين.
في مقدمة ديوان “شظايا ورماد”، تقول نازك الملائكة (تراجعت بعد ذلك عن قولها هذا): “لن يبقى من الأساليب القديمة شيء. فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعاً”. لكنها، وقبل جماعة مجلّة “شعر” اللبنانية، أطلقت حصانها الجامح هذا، وجلست بعيداً، خائفةً ونادمة، وحاولت أن تستردّه أو تلجمه لكنه مضى في جموحه.
إنّ الشعر العربي الحديث والمعاصر يسير اليوم في اتجاهات متنافرة، لكنه يميل إلى ما يشبه المصالحات وقبول التنوّع، أي “التسوية ما بين رقاب المتنافرات” على قول عبدالقاهر الجرجاني.
ثانياً: في المصطلح: قلق المصطلح
يتشدّد هنري زغيب في المصطلح. وهو ما يلخّصه في فصل “النُظُم والأصول في الشّعر” وفي فصل “النثر الجمالي” وفي فقرة “نقد الشعر والنثر”. لكننا نراه مضطراً، في مواقع كثيرة، إلى ما نسميه “التعريف بالضدّ”، أي “ما ليس شعراً فهو نثر، وما ليس نثراً فهو شعر”. وهي مسألة نهج طالما استعمله العرب في أوج حضارتهم بانتباههم الشديد إلى المصطلح والتحديد والتعريف. حددوا الشعر وأنواعه، والنثر وأنواعه. ولم يَفُتْهُم قلق المصطلح، بسبب التواصل بين الأنواع الإبداعية والمشترك بينها، إلاّ أنهم تَمَتَّعوا بعبقرية الابتكار مع الحفاظ على النوع الإبداعي. ميّزوا بين الشعر وأنواعه والنثر وأنواعه، وحين وجدوا مشتركاً في المخيّلة والتوليد والصورة بين الشّعر والنثر، ابتكروا التسمية المناسبة. فالقرآن مثلاً لا هو بالشعر ولا بالنثر. إنه الذِّكْر. أو: القرآن وكفى. إنها تسميته. كذلك بعض كتابات الصوفية التي لا تنسلك في وزن ولا يعوزها العمقُ والمخيّلة. سموها “الإشارات والتنبيهات”. لكنْ، مع العصور الحديثة والتغيُّرات الجذرية التي لحقت بِنُظُم الحياة والتفكير ومنظومات القيَم في أوروبا بشكل أساسي، أُلْحِقَت بثبات المصطلح تصدُّعات قويّة. إنّ “سقوط الأصنام” لنيتشه نموذج حيٌّ وعظيم على قلق ثبات المصطلحات القديمة والقيم القديمة. تمّ ابتكر بودلير في فرنسا مصطلح “قصيدة النثر” تأسيساً على كتابات شاعر سبَقَهُ هو أَلُوْسْيُوس برتران في مجموعته “خازن الليل” (Gaspard de la nuit). وطرح بودلير من خلال النصوص والنظرية سؤاله العظيم: “هل يمكن اشتقاق قصيدة من النثر؟ قصيدة طرية من النثر الجاف؟ هل للنثر أحياناً إيقاع خارجي وداخلي يمنحه تسمية الشعر”؟ من هذه الأسئلة المواكبةِ تطوّراتٍ صناعيةً كبيرة وتطوّراتٍ مدنيةً مماثلةً في أوروبا عامة وفرنسا خاصة، حصلَ تصدُّعٌ كبيرٌ في المصطلح وصنميّته. وانطوى هذا التصدّع على جاذبية لا تقاوَم، أصابت بعدواها أوروبا بكاملها وأميركا، وانتقلت إلى سائر مناطق العالم ولُغاته بما فيها العربية.
قد يكون من المناسب التذكيرُ بالأصول والمصطلح بعد التصدّعات الكبيرة. ولكنَّ مَن ذكّروا بها داروا على أنفسهم دورة كاملة فحطموها تماماً ثمّ انتبهوا إلى ضرورتها وعادوا فأوصَوا بها. ومؤخَّراً في الشعر العربي الحديث والمعاصر ما يشبه هذه المسألة لدى عدد من غُلاة تحطيم الأصول، الذين أصابهم ما أصاب نيتشه حين فرك كفّيه مبتهجاً وقال: قُضِيَ الأمر: مات الله. قتلناه”، فإذا به يجد الله ينتظره في الموت، في المستقبل.
الأصول اليوم تنهض برأسها لتقول: “أنا لم أمت. أنا حيّة”.
ولكن كيف؟
إن قلق المصطلح جزءٌ من قلق التاريخ نفسه، ومن قلق الصيرورة. فَلْنَعُد إلى قول فيلسوف المعرّة:
“إذا قلتُ المُحال رفعت صوتي وإن قلت اليقين أطلت همسي”.
كثيرةٌ هي المحاولات في المصطلح والتسمية: الشعر المنثور (الريحاني)، النثر الشعري، القصيدة والنضيدة، لكنّ “قصيدة النثر” يبقى مصطلحاً جميلاً له جاذبية في النحت والتأليف، مع أنه مترجم عن الفرنسية، ويحمل إشكالياته الكثيرة.
ثالثاً: في الإيقاع
يستعمل هنري زغيب كلمة “إيقاع” في مواقع عدّة من كتابه: يستعملها للشعر حيث يرى أنّ “الشرط الأساسي (للشعر) هو الإيقاع” (ص 157)، و”إذا الومضة الشعرية روح القصيدة فالإيقاع جسدها” (ص 159)، وللنثر أيضاً يستعمل “الإيقاع”: “الإيقاع في النثر الجمالي كالإيقاع في الشّعر، بَيِّنٌ وواضح. لا أؤمن بإيقاعٍ داخليٍّ مُتَوارٍ مبطَّن عليّ أن أبحث عنه، بل بإيقاعٍ يفرض جِرْسُهُ عليَّ وقْعَهُ الواضح الجليّ وسطوعَ حضوره. الإيقاع تكوِّنُهُ الأحرف والكلمات. فللحرف جِرْس خاص، رنينٌ خاص، وللحركات عليها رنين خاص” (ص 141).
لا يقدّم هنري زغيب تصوّراً مُحدّداً للإيقاع، إنما يرْشَح من رأيه أنه بالإيقاع يقصد الرنين أو الجِرْس الخارجي الصوتي للحروف والكلمات في ائتلافها واختلافها وجمعها وتفريقها. لذا هو ينفي أو يُبهم “الإيقاع الداخلي”.
ولسعيد عقل هذا البيت في هذا المعنى:
“والكون قُلْهُ رنينَ الشعر، قُلْهُ صدى لكفّ ربّك إذ طنّت على الزمن”.
فالإيقاع هو الرنين. هو صوت. والصوت محسوسٌ وخاضع للقياس. أحياناً لا يتمّ التمييز في الكتابات النقدية بين الإيقاع والوزن بالنسبة لنظرية الشعر. فما افترضه الأقدمون من وزنٍ للشعر ليس هو الإيقاع، وإن يكُن الإيقاع جُزءاً منه. فليس كلّ إيقاع وزناً، لكنّ في كلّ وزن إيقاعاً. الوزن هو تَوالي أصوات محددة متحركة وساكنة بصورة نمطية ومحدودة ومقفلة (مبدئياً): فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن. أما الإيقاع فمسألة أكثر تعقيداً وغموضاً. سماه اليونان Rythmos (حركة منتظمة محددة:un movement reglé) وبالفرنسية Rythme. (La réalisation périodique d’un phénomène auditif ou visuel).
نظرية الشعر النقدية العربية لم تستعمل مصطلح الإيقاع بل الوزن. فالوزن للشعر، والإيقاع للموسيقى والغناء. إلا ابن سينا الذي استعمل للشعر الوزن والإيقاع. فالغالب هو تخصيص الوزن للشعر، والإيقاع للموسيقى.
وعلوي الهاشمي (شاعر وأستاذ أكاديمي بحريني)، في كتابه “فلسفة الإيقاع في الشعر العربي” (2006) دار على مائتي صفحة ونيّف حول الإيقاع دوراناً مفرغاً في حلقة ليس لها أوّل ولا آخر.
الإيقاع غامض غموض الشعر نفسه وغموض الموسيقى. إنه كالنشوة الدينية التي وصفها غارسيا لوركا تأسيساً على الموسيقي باغانيني “قوّة خفيّة لم يعرفها فيلسوف، كوردة تخلق حديثاً، كمعجزة، وتولّد في النهاية ما يشبه الحماسة الدينية. فيفا ديوس (أي ألله حيّ). صرخة إنسانية عميقة، تجريد صادق لهذا العالم، صافٍ صفاء الحدائق السبع” (مختارات من شعر لوركا – ترجمة عدنان بغجاتي – دار المسيرة بيروت 1980).
من تعريف إلى آخر، ومن افتراض إلى آخر في الإيقاع، يتبيّن أنّ الإيقاع كالسحر. أو أنه طرف من أطراف الغيب، أو سرّ من أسرار الموسيقى. يتمظهر في الموسيقى (وبالتالي في الشعر) كما تتمظهر الروح في الجسد. إذنْ حقيقتُه خفيّة، وظاهره ظاهر. “ليس الجسد، بل هو الروح”، كما أشار هنري زغيب في كتابه.
بالتأكيد ثمّة صلة بين الموسيقى وآلاتها: الكمان، العود، … إلخ، لكنّ الموسيقى ليست هي آلاتها ولا حتّى أصواتها.
وثمّة صلة بين الشعر والكلمات والأصوات والإيقاعات (الأوزان والتوازنات) لكنّ الشعر ليس هذا ولا ذاك.
وحين عرّف برغسون الإيقاع بأنه “الجسر الواصل بين المبدع والمتلقّي”، كان يلمس الأثر ولا يمسّ الجوهر.
ت. س. إليوت يتقدّم خطوة حين يرى أنّ “موسيقى الشعر ليست قضيّة سطر بعد سطر، إنما هي كليّة النصّ”، ويرى أنّ “الموسيقى موسيقى خيال بمقدار ما هي موسيقى صوت”، تماماً كما يرى ج. هـ. لورنس “جناحين للنّص”.
لكنّ أكثر معاني الإيقاع في الشعر تمثيلاً، صورتان: إحداهما لأوكتافيو بات، والأُخرى لإليوت.
فعن تقريب فكرة الإيقاع في الشعر يقول أوكتافيو بات: “القصيدة مَحارةٌ تصدح فيها موسيقى العالم، والقوافي والأوزان ترددات وأصداء هذه الهارمونيا الكونية”.
ويقول إليوت: “وراء أشدّ الشعر تحرراً يجب أن يكمن شبح وزنٍ بسيط، إذا غفونا عنه برز نحونا متوعداً، وإذا صحونا غفا. إنه عفريت الشعر”.
وفي السياق نفسه يقول أرشيبالد ماكليش: “اصطياد اللحظة الشعرية التي هي لحظة الإيقاع، كاصطياد الصيّاد روح الكون في الشبكة “.
وللبنية الإيقاعية مستويان: ظاهر يمكن وصفه وقياسه، وهو للأسف لا يقدّم التعريف الحقيقي للإيقاع، وخفيٌّ يُنال بالذوق، وهو مستوى يكاد يكون لا يوصف. وهنا صعوبة التعريف بالمصطلح. وملاحظة التطور الإيقاعي للقصيدة العربية من الجاهلية حتّى اليوم هي “اعتصار ماء الشعر من جميع أوعية المعرفة، وهي رؤية اللحظة الشعرية عارية في براري الحريّة” (علوي الهاشمي).
من باب الإيقاع بالذات، لا من باب مُعجمي، يحسن الدخول إلى حقل الكلمات في الشعر. وهو باب ولجه العارفون والشعراء بقوّة. يقول ابن عربي “الحروف أُمَم”. ويقول صلاح عبد الصبور في قصيدة الكلمات (من ديوان “أقول لكم”):
“حديثي محض ألفاظٍ
ولا أملك إلاّها
وللألفاظ سلطانٌ على الإنسانْ
ألم يرووا لكم في السِفْر أنّ البَدْءَ يوماً كانْ؟
جلَّ جلالها الكلمة”.
ويقول في مأساة الحلاّج “إنّ الكلمات إذا رفعت سيفاً فهي السيف”.
ويقول في مذكرات الصوفي بشر الحافي “من أحلام الفارس القديم”:
“ينبوع القول عميق
لكنّ الكفّ صغيرة
من بين الوسطى والسبابة والإبهام
يتسرّب في الرمل كلام”.
وفي مأساة الحلاّج:
“ما بين الحرف الساكن والحرف الساكن
تهوي رأس كانت تتحرّك”..
ما يعني أنّ في الكلمات، وهي أدوات الشاعر، شحناتٍ روحيّةً قويّةً وغامضة.
وهي ذات أصل في الدين” فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه” (الآية). “بنشرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح” (الآية في خطاب مريم)، وهي ذات أصلٍ في السحر أيضاً.
رابعاً: النثر وحقوله الجديدة المغناطسية (السرد، الرواية،…)
عروق النثر في الشعر العربي الحديث تمتدّ امتداد عروق الذهب في منجم.
إنّ تطوّر حساسية هذا الشعر، ونقله من الكلاسيكية بوجهيها القديم والمحدث، عملٌ بدأ في عصر النهضة وفي بلاد الشام على أيدي أدباء ناثرين بروتستانتيين ويسوعيين، كالأب جرمانوس فرحات والشيخ ناصيف اليازجي والشيخ ابراهيم اليازجي والمعلّم سليمان البستاني، وعلى يد فرنسيس مرّاش الحلبي (1836-1873) في كتابه الفريد “غابة الحقّ”، ما انعكس على جبران خليل جبران وشعره بشكل واضح. تضاف إلى ذلك ترجمات الأناجيل من السريانية إلى العربية، فإن روحاً إنجيلية واضحة ترفرف على كتابات جبران وتدير عباراته (في “النبي” بخاصة، وفي “رمل وزبد” و”السابق”).
وترجمات الكتاب المقدّس لم تَجْرِ على أساليب الفصاحة والبلاغة العربية المعهودة، بل اختطّت أسلوباً آخر يستند إلى الليونة والشاعرية وإعادة ترتيب الجملة، ما كان له أثرٌ في تطوير الشعر اللبناني الحديث بخاصّة.
هذا لناحية بعض التطوّر اللغوي والأسلوبي للشعر العربي الحديث والمعاصر.
لكنّ النثر، النثر العظيم، في ما هو سرد القصص والروايات العالمية الحديثة وبعض الروايات العربية، فهو يهدر بكل تفجّراته الإبداعية ونقل المتخيّل الروائي إلى السرد، لدى ماريو فارغاس يوسا، حيث الروائي يقتات بدمه، ولدى وليم جيمس وبورخيس وماركيز الذين يسردون سرداً روائياً عجيباً ودونكيشوتياً كأنهم شعراء، لإحلال الوهمي محل الواقع، واعتباره الحقيقة، وحيث أقصى قوّة الكلمات تتمظهر في سرد أسلوبي متنوّع ما بين سارد عليم علوي omniscient مسيطر على صيرورة الرواية كإله، أو سارد ملْتبس لا يُعرَف أهو من داخل الحكي أم من خارجه، وما هو الضمير المستعمل: الغائب أم المخاطب أم المتكلّم، أم جميعها؟
السارد الملتبس، كما لدى هرمان ملفيل في “موبي ديك” يوقع في حيرة حين يقول إنه ليس متأكّداً من هوية الشخص السارد، وليس متأكداً من تسميته اسماعيل الذي يموت في آخر الرواية. وإذا مات، فكيف يكون الميت سارداً؟
في الرواية العربية وفن السرد المبدع لدينا يوسف حبشي الأشقر في لبنان، وفي مصر نجيب محفوظ بخاصة في “أصداء السيرة الذاتية”، حيث حقاً وصدقاً لم أكن أعرف هل كان يكتب القصيدة أم الحكاية… وحيث النثر يلبس تاجه.

الخلاصة:
أهمية كتاب “لغات اللغة” تكمن في ما يقيره من أسئلةحول مسائل إبداعية كثيرة طالما كُتِبَت فيه كتب ودراسات وأبحاث، من داخل اللعبة لا من خارجها.
والعنوان “لُغاتُ اللغة”، في ذاته، “لقيّة”، والشواهد الكثيرة التي دعم بها الشاعر وجْهات نظره من مبدعين معتبَرين شرقاً وغرباً ومن عصور متفرقة ولغات متباينة، هي مداميك تدعم بناءه الجميل. لكن بمقدار ما الشعرُ مُلغِزٌ وفي جوهره الغموضُ والحرية، كذلك الكلامُ حوله.
إنها افتراضات على حال، أهميتها تكمن في إثارتها، وفي جعْلها جزءاً من سؤال الإبداع الكبير الممتدّ على مساحة الإنسان. ذلك ما فعله هنري زغيب الشاعرُ الباحث بِحِسٍّ مُضاعَف من متعة الكلمة وحيوية السؤال التي هي حيوية القلق.
وإذا كان لديه ميلٌ لقطع الجواب أحياناً، فتعدُّد “اللغات” عنده يشفع له واحِدِيَّة اللغة.

—————————————————-
——————————————–
————————————

شهادة من د. سلوى الخليل الأمين
حول كتاب “لغات اللغة” للشاعر هنري زغيب
(الحركة الثقافية أنطلياس – الجمعة 11/3/2011)

“لُغاتُ اللغة – نُظُمُ الشعر والنثر بين الأصول والإبداع” كتاب الشاعر هنري زغيب، هو اللَمعة في زمن الردّة والفجار والانهزام الثقافي، حيث تُرمى النعوت والألقاب على الكتاب يُمنةً ويُسرةً وكيفما تَيَسَّر، وإن بَعُدَتْ نصوصُهم المكتوبة عن نُظُم الشعر وقِيَم النثر وأُصولِ الإبداع.
وهذا ما أثار حفيظة الشاعر الأستاذ هنري زغيب المتمكّن من لغته وأدبه وشعره. لذا طرح الصوت المكتوب على هذا اللوح الذي نريده مَحفوظاً من كلّ أذى، لتكريسه مرجعاً أدبياً يقينياً من الضروري أن يسترشد بمضمونه الباحثون والدارسون، وكلُّ من يلج مِحراب الشعر والنثر كاتباً أو شاعراً، كي لا يَحيد عن الأُصول والثوابت التي هي الركنُ الأساس في عملية “الإدهاش” و”المباغتة الجمالية” التي ترسم نقطة العبور إلى النصّ الإبداعي شعراً أو نثراً.
أستاذ هنري: بعد أن قرأتُ كتابَكَ مرّتين، وما زلت أعيد القراءة من دون كلل أو ملل، دعني أَشهد: بأنّك أَمسكتَ الحقيقة الْمُرّة، فاستطعْتَ تسليط الضوء على لغةٍ أحبَبْتَها فأَجَدْتَها، وأبدَعْتَ في تثبيت أَصالتها ومداميكها شاعراً وناثراً من دون تَجاوُز الأصول والجذور والقيم. والأهم أنّك رفَعْتَها غمراتِ مطامح وسِفْر وُجود. طَوَّعْتَ لغة الضاد ولم تسفَحْها على مسارات التجديد لغةً باهتةً لا رونقَ فيها ولا روحَ ولا نبضَ عافية.
نعم لقد جُدْتَ علينا بسِفْرِكَ هذا، الشاهد على عصركَ، مُحذِّراً من الانحراف والغواية، لأن المعيار الأساس كما تقول: “علاقة الكاتب باللغة، وإتقانه إياها، وإبداعه فيها”.
لم تُنكِر الحداثة والتجديد، ولن نُنْكِرَهُما.
وأوافِقُكَ القولَ إن الخلط بين الشعر والنثر يلغي حالة الإبداع المطلوبة، حيث للشِعر عرينُهُ الذي هو القصيدةُ المتمكِّنةُ التي تُخَلْخِلُ حواسّ المتلقّي، وللنثر كيانُهُ ونَقْشُهُ الجميلُ ولغتُه الأصيلة.
وكي تبقى للُّغة لغاتٌ، ننتظر بفارغ الصبر الجزء التالي من نتاجك الثر هذا.
وإلى لقاءٍ قريبٍ معك من جديد.