هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

983: بين الفقيد والمفقود

الحلقة 983: بين الفقيد والمفقود
الأربعاء 16 شباط 2011

كأنما قدَرُهُ، هذا الأُسبوع في لبنان، أن يكون لاستذكار الغياب.
والغياب فَقْدٌ وفَقيدٌ ومفقود.
الفَقْد: شعورٌ بِما أو مَن لم يعُد موجوداً.
الفَقيد: مَن نَعرف شأْنه، وتالياً نَعرف حجم الفراغ الذي يتركُه في القلوب والمحيط.
المفقُود: ما أو مَن لم نعُد نعرفُ عنه بعد فُقدانه.
وإذا استثنينا الفَقْد كما علِمْناه،
والمفقُود كما ضيَّعناه ولن يعود،
يبقى الفَقيد الذي عادةً يعود،
في إرثه يعود،
في نسله يعود،
وفي آثارٍ تترك بصماتها منذ غاب، وبعد غيابه تبقى لا إِلى غياب.
في الوطن، الغائبُ لا يغيب، حين تبقى في الوطن من حضوره تَرِكةٌ ينمّيها الوطن إلى أجيالٍ حالية ومقبلة.
هكذا الفقيد،
وهكذا الشهيد،
وهكذا تبقى الشهادةُ إرثاً في وطنٍ يعرف أنّ الإرث ليس في ما مضى،
بل في ما ترك الشهيدُ حتى يظلَّ مستمراً ما مضى،
فلا يَمضي مع الزمن الموغل في المضيّ.
وإذا كانت صرخات 6 أيار 1916 لا تزال تتردَّد في ضمير الوطن،
أصداءَ من صرخوا على حبل المشنقة في وجه الطاغية الذي علَّق حبلَ المشنقة،
فهذه ساحةُ الشهداء تحوّلَت، منذ غابت شمسهم، شمساً دائمةَ السُّطوع،
ساحةً للحرية التي اخترقَت صرخاتُ أبنائها كلَّ فضاء،
وخلعَت بوابة الباستيل اللبناني إلى فضاء الاستقلال الثاني الذي حمل حرية لبنان
من أعلى قلعة راشيا إلى أقصـى ساحة البرج،
ساحةِ الشهداء،
ساحةِ الحرية،
لكي يبقى لبنان عاصياً على كلّ غازٍ ومُحتلٍّ وغاصبٍ،
ولكي تظلّ رايةُ لبنان حرّةً
من كل تبعيةٍ واستزلامٍ واستسلامٍ وزبائنيةٍ ومَحسوبيات.
وماذا بعد، حين يطنُّ فراغ الغياب؟
بعدَه يكون الوفاء.
الوفاءُ للغائب، لا طعْنُ غيابه مرتين:
أُولى في حضوره خِلسةً،
والأُخرى في غيابه سُفوراً.
الوفاء للغائب يكون على حجم انتمائه إلى الوطن،
فعلى مَن بعدَه أن يواصلَ هذا الانتماء للوطن شعباً ومقدّرات،
وللدولة التي تُسيِّر الوطن.
إنّ دولةً لا تَحفظ كرامة بُناتِها، تبقى دولةً عَقوقاً يستهين بها كلُّ طامعٍ يستغلُّ عقوقَ أَبنائها.
وحين الغائبُ تاركٌ بعدَه إرثاً على حجم وطنٍ طالعٍ صوب الفضاء الأَوسع،
حريةً واستقلالاً وحفاظاً على إرث أجيال،
يَجدُر بالأوفياء حَمْل مشعلِه، لا فرداً في وطن، بل رمزاً في وطنٍ لا يغتال رموزه مرتين.
وفاءً لهذا الإرث،
نتذكّر هذا الأسبوع مَن فقدْنا ولم نفقد،
لأنهم باقون في إرثهم الوطني،
على أن تبقى تَرِكتُهم في عُهدةِ أوفياءَ تعهّدوا أن يعاهدوا الوطن على استمرار الرسالة.
وما أنبلَ مَن يعرفُ أن يكونَ وفياً،
لأنه يَحملُ بَرَكة الوطن الذي لا يُواصل إرثَه في الزمان إلاّ مَن يعرف كيف يستاهل حقاً نعمةَ الوفاء.