هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

679: الـ”أكثر مبيعاً” أم الـ”أكثر إبداعاً”؟

الـ”أكثر مَبيعاً”؟ أَم الـ”أكثر إبداعاً”؟
السبت 15 كانون الثاني 2011
– 679 –

في ختام معرض الكتاب، يُسارع الناشرون إلى استطلاع الإحصاءات من إدارة المعرض، كي يتبيَّنوا إن كان الكتاب الـ”أكثر مبيعاً” هو من منشوراتهم.
وهذا حقُّهم في قطف النتيجة السعيدة، وهو كذلك فرحُ المؤلف في اكتشاف رواج كتابه.
الـ”أكثر مبيعاً”!!! عبارةٌ تُغري. ولكن…هل هي دائماً تُثْري؟
ما الذي يجعل الكتاب يَنفد فيُعيد الناشر طبعه مَثْنى وثلاثاً وربما أكثر؟
وما الذي يجعل مؤلفات الكاتب مطلوبةً حتى ليحثّه ناشره على إنهاء كتاب تلو كتاب؟
وما الذي يُبقي هذا الكاتب أو ذاك في رأس لائحة المبيعات عاماً تلو عام؟
في الغرب (وفي جامعاتٍ معيّنة) دُرْجَةٌ لدى بعض الكتّاب باتّباع دروس خاصة في بناء النص وفي كتابة الرواية أو المسرح أو القصة، لكنّ البعض الآخر من الكتّاب يتّبع حسّه وحدْسه وفطرته، وخصوصاً موهبته الأصلية في نسج نصوصه.
الجوهر ليس في “كيفية” سرد النص أو تركيبه، بل في “ماذا يقول” عبر هذه الكيفية.
النص المسرود سليماً لا يكفي وحده إن لم يرفدْه مضمونٌ سليم.
وتالياً، بلوغ الـ”أكثر مبيعاً” ليس علْماً وحسب، بل إبداع تدعمه براعة إيصال.
غير أن لهذا الإيصال لوازم ضرورية:
منها إشراك القارئ في شدّه إلى السرد في النص (“إذا عرفتَ كيف تكتب رواية، عرفتَ كيف تخلق عالَماً كاملاً” – كِنْ فولّيت، الكاتب البريطاني الأكثر رواجاً).
ومنها تشويق القارئ فلا يترك الكتاب في أيّ صفحة ويطفئُ الضوء وينام بل يبقى مشدوداً صفحةً بعد صفحة.
ومنها أن يكون النص مشغولاً في حبْكة ذكية سلسة لا تزعج القارئ بعبارات غريبة أو خارج الاستعمال المعاصِر.
ومنها أن تكون في الكتاب نكهةُ العصر فيتواصل معه القارئ من دون أن يغرق في تاريخ سحيق غريب عن عصره.
ومنها انتقال عنوان الكتاب من شخص قرأه إلى شخص ينصح بقراءته، وهذا أفضل من أيّ إعلانٍ وإعلام.
ومنها عدمُ استنساخ نجاح سابق بحجة أنه لا بُد سينجح أيضاً في تجربة أخرى، لأن القارئ المثقف فضّاح لا تنطلي عليه هذه الخدعة.
ومنها أن يكتب الكاتب من واقعه فينقلَه لقارئه.
ومنها شحْنُ النص بعواطف قوية عالية: حُبّ عاصف، دموع، نشوة وفرح، ضحك، عذاب عاشقَين، مأساةٌ تقع، أو فاجعة تحلّ.
ومنها توسيع مساحة انتشار الكتاب إلى بلدان أخرى وقرّاء بعيدين عن مُحيط الكاتب أو بلاده.
ومنها نَيل الكاتب جائزة أو جوائز على كتابه المعنيّ أو كتابٍ سابق يؤدي إلى اقتناء أيّ كتاب له جديد.
ومنها معرفة التسويق الإعلامي في مقابلات إذاعية وتلفزيونية كما في كتابة (أو استكتاب!!) مقالات عن الكتاب في الصحافة.
ومنها ذكاء إخراج الغلاف جذّاباً، أو وضع شريط ملوّن على الغلاف يلفت النظر.
غير أن الـ”أكثر مبيعاً” ليس دائماً هو الـ”أكثر إبداعاً”.
قد يُقْبِلُ القارئُ على روايةٍ شعبية عادية، أو كتابٍ في الفلَك والأبراج، أو في فن الطبخ، أو في الأزياء أو التسلية، فتنتقل القراءة عندها من تثقيفيةٍ سابرة إلى تسلوية عابرة، وهذه لا تُقيمُ أدباً، ولا تَزِنُ كاتباً، ولا تَصلُح معياراً لشهرة الكاتب، أو لانتشار مؤلفاته، ولو لفترةٍ كانت فيها الـ”أكثر مبيعاً”.
المعيارُ الحقيقي هو الإبداع.
ولنا في تاريخ الأدب والفنون شواهدُ لا تُحصى على عملٍ لم يلقَ نجاحاً عند صدوره، وسبَّب الحزن والكآبة لصاحبه، حتى إذا غاب هذا الأخير أخذ العمل طريقه في التاريخ ثم اندلعت شهرتُه فحقَّق مبيعاتٍ وانتشاراً، إلى شهرةٍ يكون صاحبه مات ولم يذقْ حلاوتَها.
وحده الإبداعُ معيارُ العمل الخلاَّق، وهو سيلقى انتشاره ولو بعد حين، ولو بعد غياب صاحبه.
الإبداع ليس “موضة” ولا “موجة” تعلو فتزدهي ثم تَهبط فتنتهي.
ليس للإبداع ظرفٌ ولا مناسبةٌ ولا فرصة: حين هو أصيلٌ ومُجدِّدٌ وخلاّق، يخترق حُجُبَ الزمان والمكان، ويَبلُغ مداه انتشاراً وصُدُوراً وطبعاتٍ وإعادةَ طبع، لأن الإبداع حدوده المدى الواسع، وعندها يكون هو الـ”أكثر مبيعاً” لأنه الـ”أكثر إبداعاً”.
وهو هذا حُلمُ كلّ مبدعٍ أَصيل خلاَّق.