هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

676: بين الواقع والمُرْتَــجَل

بين الواقع والْمُرتَجَل
السبت 18 كانون الأول 2010
– 676 –

مع ختام معرض “بيروت العربي الدولي للكتاب” أولَ من أمس (الخميس)، وما كان له من أثَر بَيِّنٍ على حركة النشر والكتاب في بيروت التي ما زالت، كعادتها، عاصمة الكتاب ولو لم تكن طليعة مستهلكي الكتاب، يَجمُل التوقُّفُ عند ظاهرة التواقيع التي يَحمل معظمُها درجةً راقية من الاحتفالية الأدبية لكنّ بعضاً منها مشدودٌ اصطناعاً إلى تلك الدرجة من غير استحقاق.
هذا “الشدُّ غير الاستحقاقي” يعود في أغلب المواضع إلى إصرار أصحاب العلاقة على أن يَسِمُوا أسماءهم بصِفاتٍ وأَلقابٍ ونُعوتٍ لسواهُم أن يُغدقها عليهم، لا أن يُطلقوها هُم، أو يتبنّوها هُم، ويُسَوِّقُوها لأنهم يستهْوُون قراءة اسمهم مسبوقاً بها.
وما أكثرها تلك النعوت والألقاب والأوصاف والتسميات! فهذا “إعلاميّ”، وهذا “صحافيّ”، وهذا “شاعر”، وهذا “روائيّ”، وهذا “كاتب”، وهذا “مُحلّل”، وهذا “ناقد”، وهذا “باحث”، وهذا “مُفَكِّر”، وهذا “فنان”، وهذا “مؤلّف”، وهذا “مُطرب”، وهذا “مبدع”، وهذا “پروفسور”، وهذا “دكتور”،… وتطول اللائحة وتتشعَّب (ذُكوراً وإناثاً) إلى فوضى ألقابٍ جديرةٍ بأصحابها الأصيلين مستحقِّيها، إنما دعائية استعراضية مصطَنَعَة عند إغداقها على من ليسُوا لها أو منها أو فيها، أو مِمّن يفرضونها على الناس في بطاقات الدعوة أو على أغلفة الكتب أو في رأس السِيَر الذاتية.
لذا يظلّ أصدقُ الصادقين مَن لا يُورِد اسمَه – ولا يرضى بإيراد اسمه أو لا يطلب عند إيراد اسمه – إلاّ بذكْره مُجرَّداً من أيِّ لقبٍ، ليقينه أنّ اسمه وحدَه لقب، وهوية، ووسام، نتيجةَ جهده التأليفيّ، أو أَثَره في آثاره، أو رصانة اسمه فوق كلّ لقب.
الشاهد من هذا الطرح، سؤالٌ لعلّه وحيد: ما هو المعيار؟ من الذي يستحقّ، علْمياً وميدانياً وإثباتاً إنتاجياً، أن يقال عنه شاعراً أو روائياً أو ناقداً أو إعلامياً أو صحافياً أو كاتباً أو مُحلِّلاً أو باحثاً أو مفكراً؟ وما المقياس الذي يُحدِّد هذا اللقب أو ذاك؟
هل كلُّ مَن نظَمَ صار “الشاعر”؟ وكلُّ مَن نشَر مقالاً في جريدة صار “الصحافي”؟ وكلُّ مَن ظهر على الشاشة صار “الإعلامي”؟ وكلُّ مَن كتَبَ رأياً في جريدةٍ أو نَصٍّ صار “الناقد”؟ وكلُّ مَن أعطى رأياً في موضوعٍ راهن صار “المحلل”؟ وكلُّ مَن استعرض نصّاً صار “الباحث”؟ وكلُّ مَن حمَل شهادةً يستحقُّ فعلاً ألاّ يرضى باسمه غير مسبوق بـ”الدكتور” أو “الپروفسور” أو كليهما معاً والفارق كبير بين الدكاترة الجدّيين ومَن تَدَكْتَروا غير جديرين؟ وهل كلُّ من قال أو كتَبَ أو عَبَّر صار “المبدع” من دون أيّ مقياس أو تحديد أو معيار لـ”الإبداع”؟
وكما في الأدب والفكر كذلك في الفن: هل كلُّ من وقَفَ على مسرح في مطعم أو مقهى أو فندق، أصبح “الفنان” أو “المطرب”؟ وهل كلُّ من غنّى أطربَ حتى يقال له “المطرب”؟ وهل الفنُّ منحةٌ “كاريتاسيّة” تُهدى عشوائياً ومجانياً إلى كل مَن غَنَّى أو رَسَمَ أو مَثَّلَ أو نَحَتَ أو لَحَّنَ أو أخرَجَ أو عَزَفَ أو صَوَّرَ حتى يقال له “الفنان”؟
هذا كلُّه يعود إلى الجدارة والاستحقاق. وكلاهُما يعود إلى طبيعة العمل وجُودته وجَديده وتأثير صاحبه على مُحيطه ومتلقّيه. وهو ما لا حسابَ له في فوضى توزيع الصفات، وفي مهرجاناتٍ كرنَڤالية تتضخَّم فيها الألقابُ التفخيمية وتتصاغرُ الأحجامُ الحقيقية. فليس كلُّ مَن يدّعي لاسمه لقَباً يَستحقُّ هذا اللقب، وليس كلُّ مَن يُهدى لقَباً يكون يَستحقُّه كي يتبنّاه ويسارعَ إلى وضْعه على بطاقاته الشخصية وأغلفة كتبه أو التعريف بأعماله. هي هذه الحال بين الواقع الجدّيّ والمرتَجَل المجانيّ.
حين تضيع المعايير يُعاد إلى الأثَر نفسه، أدبياً كان أو فنياً، ليبقى هو المقياس. فما يبقى في الذاكرة ليس اللقب ولا النعت، بل الأثر نفسُه في الزمان والمكان، بدليل أنّ الناس اليوم يَذْكُرون لامارتين من دون لقبه “سعادة السفير”، ويَذْكُرون ڤيكتور هوغو من دون لقبه “سعادة النائب”، ويَذْكُرون بيتهوڤن من دون لقبه “الفنان”، ويَذكُرون أفلاطون من دون لقبه “المفكِّر”.
ويا سعادةَ من يكون اسمه فقط هو اللقب الذي يبقى لكلّ زمان ومكان.