هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

675: حين يُـحِــبُّ الشاعِر (2/2)

حين يُـحِـبُّ الشاعر (2/2)
السبت 11 كانون الأول 2010
– 675 –

… حين يُحبّ الشاعر،
يستيقظُ فيه الطفل الذي كانَهُ، وظَنَّ أنه لن يعود.
طفلٌ يهرع، ينفعل، يَحرَد، يغضَب، ينجرح للأقلّ، يطلُب الأكثر.
يُلِحّ، يَخرج منه وَقار العمر، يدخل إليه نزق الطفولة.
ترِقّ شفافيّته، ترِقُّ، ترِقُّ حتى حافة الانكسار.
حين يُحبّ الشاعر،
تكثُر كذباتُه البِيض، لا سوءاً بل هرباً من مواقفَ تُغضِبُ حبيبتَه.
الشاعر لا يكذب.
الشاعر يهرب الى ما هو قبالة الصدق، حتى لا يقف قبالة حبيبته في موقف يُغضِبُها.
وهي تعرف ذلك إن كانت، حقاً، تعرفه، فتغفر له “شيطناته الطفولية”، وتعود تغمره بحنان الأُم فتتحوَّل، وهي تغمره، الى طفلته الأُغنوجة.
كلُّ ما يفعلُه، يفعلُه لأنه يُحبُّها.
فوق كلّ حَدّ.
فوق كلّ وصف.
فوق كلّ اتساع من كلمات أو عواطف.
يُحبّها ويقولُ لها.
يقولُ لها ويكرّر.
يقولُ لها ويظلُّ يقول لها.
يخافُ أن تغضَب ويقولُ لها إنه يَخاف أن تغضَب.
إذا أخطأَ يهرع ويعتذر. وإذا أخطأَت يدّعي أنه هو الأَخطأ.
تزعل؟ تهجُره القصيدة. تبتعد. يقوِّس ظهرُه من الهَمّ والوِحدة والهَول.
ترضى؟ تنتصب قامته، يقوى صوتُه، ترشقُه الحياة بِنَدى الحُب. ينتعش. تعود إليه القصيدة.
حين تكون معه لا تكون “معه”. يكون هو أمامها. في ذهول الفرح. في انْخطاف العبادة.
في انبهارِ مَن لا يصدّق أنه يُعطى هذه النعمة، وأنه عاش حتى استحقَّ هذا الحب الذي وصل بعدما كان يكتب عنه وإليه متخيِّلاً إياه كي يسكن في دفئه.
يقول لها نبضَه اللاهبَ بالحُب.
كلَّ ما في شرايينه من شوقٍ يقول لها.
يلهف في الكلام. يكرّر الكلام.
وقد ينتهي الكلام فتكمله هي، أو تبدأُه هي، أو تختصره بلمسةٍ على جبينه.
يدُها على جبينه؟ ينظر إلى وجهها. إذَنْ هو ينظر إلى فوق. إلى السُّمُوّ الأعلى. الى الكائن الأسمى، الأكمل، كما يراها وكما كان توّاقاً الى أن يكون أمام كائنٍ أسمى. أمام “كائنه” الأسمى.
أُسوةً بالإنسان الذي من أول ما كان، راح يبحث عن كائنه الأسمى.
وها هي حلّت في عمره فتساماها كائنَه الأكمل. وأخذ يؤمن بها إيماناً مطلقاً له ولشِعره.
يكتُب وتَقرأ. كأنما يكتُب كي تقرأ. كي تكونَ هي قارئتَه الأولى. ناقدتَه الأُولى. يَثِقُ بقراءاتها الثاقبة. يستسلم لها.
تَقْرأُه وتُقرِئه معاً. وهو يكتب بها وفيها ومنها ثم إليها.
ويحفظ عنده كلّ رأْي تكتبه. كلّ كلمة تَخُطُّها على قصيدته أو نثريّته.
يحفَظ عنها كلّ شيء. ويَحفَظ كلّ شيء منها، كلّ دمعة، كلّ صورة، يَجمع لها صُوَراً وكلاماً، قصاصاتٍ بِخطّها، لُماماً من أثرها، متروكاتٍ من عبَقِها يَجعلُها أيقوناته ومقدَّساته. يبارك بها غرفته ويتبارك بها صباح مساء.
قد تتأخّر لتَصِل. قد يلتقيها في خريف العمر.
لكنها، حين تأتي، تكون استثنائية. وتتغيّر حياته. كلُّ حياته.
الحُبّ يُغيّر. وحدَه الحُبّ يُغَيِّر.
وها الحبّ غيّرَه. نقّاه من غبار السنوات المالحة. عرّاه من جميع أقنعته.
غَسَلَه من الرواسب والطحالب. رفعَه إلى نُضجٍ أعلى.
خلَق فيه الربيع الجديد. خنَق فيه الذّئب العتيق.
***
حين يُحِبُّ الشاعر،
يَصيرُ الشعر أحلى،
يَصيرُ الحبّ أحلى،
تَصيرُ الحياة أحلى.
أيها الشاعر:
حَبيبتَك،
حَبيبتَك،
حَبيبتَك،
ثم شِعرَك.