هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

969: في هناءة النّظام

الحلقة 969: في هناءة النظام
الأحد 26 كانون الأول 2010

هاتفَني أخي من مونريال مُعَيِّداً بالميلاد. وبعد سؤاله عن الأهل هنا، والاطمئنان على الأحوال العائلية والسياسية عندنا، كان لا بُدَّ أن أسألَه عن أُسرته وأحواله العائلية فقط، لأن الأحوال السياسية هناك ليست في تَدَاوُل الناس كما عندنا في كل بيت.
وإذا به يُخْبرني أن المدينةَ غارقةٌ تحت رُكام الثلج، والحرارةَ في مونريال دون العشرين تحت الصِّفر، والثلجَ يتساقط كُتَلاً تتراوحُ بين خفيفِها والثقيل. قالها بصوتٍ عاديٍّ كأنه يُحَدِّثني عن الشمس في نهار ربيعي. لم يكن في كلامه هلعٌ ولا حالُ طوارئ. وإذ قلقْتُ مستَطْمِناً، أجابني أنّ الأمر عاديٌّ في كندا، وليس في هذا الطقس ما يُغيِّر من حياة الناس اليومية، ولا من إيقاع المدينة اليوميّ، فكلُّ أمرٍ سائرٌ طبيعياً على عادته المألوفة: الأشغالُ سائرة، المحالُّ فاتحة، الطرقاتُ سالكة، وليس متروكاً أيُّ أمرٍ للمفاجآت، نَبضُ المدينة مُهَيَّأٌ لكلّ طارئ، لا شيءَ يتغيَّر في طقسٍ يتدَنّى تحت الصفر عشرين درجةً وربما أكثر، النظامُ مفروضٌ في شدّةٍ وحزم، لكل حركةٍ مفتاحُها وسلُوكها، الانتظامُ مُطبَّقٌ على الجميع من دون استثناء، الناس منضبِطون ملتزِمون هادِئون يُزاولون حياتهم اليوميةَ من دون هلعٍ هستيريٍّ ولا عُصابٍ كارثيّ، كأنما هُم من كوكب هادئٍ معتادون فيه على كلّ ما يجري، ومحتاطون،كما دولتُهم، لكلّ ما يستجدّ. من هنا أن الحياةَ عاديةٌ، والسيرَ عاديّ ولو في عزّ العواصف الثلجية: السياراتُ تسير ضمن الخطوط المخصَّصة لها، صُفُوفاً صُفُوفاً، لا زمامير، لا تجاوزات زيكزاكية هستيرية، لا سرعة مخيفة قاتلة من شبابٍ هُوج، ونظامُ السير فوق رؤوس الجميع.
وختم أخي مهاتفتَه متمنّياً ميلاداً سعيداً للعائلة هنا، ومُخْبرَني بأنه يأخذ ولدَيه نهار الميلاد إلى برامج تثقيفية منوّعة يختاران بينها ما يحبّان: سيرك أو باليه أو مسرحيات أطفال أو زيارة متاحفَ خاصة أو مكتباتٍ عامةٍ ذاتِ برامجَ تربويةٍ جاذبة ومثقِّفة.
بعدما أقفلتُ الخطّ مع أخي، رحتُ أفكّر بمدينةٍ هناك يتناثرُ على وجهها غبارُ النفناف الأبيض، فتمسَح وجهَها وتمضي هانئةً هادئة، نظامُها يلفُّ الجميع، انتظامُها يَخدُم الجميع، نظاميَّتُها حصانةُ الجميع، وأفكّر، في المقابل، بوطن كاملٍ هنا صيفيّ المزاج فقط، ما إن تهطل عليه الشَتْوَةُ الأُولى حتى يصيبَه الهلع، وتجري الأنهار على طرقاته، وتشلِّع الرياح أعمدته، وتتخلَّع حفافيه ودروبُه، وتَستنفر القوى الأمنيةُ واللوجستيةُ قواها وأدواتِها وآلاتِها ومعدّاتِها لأنه وطنٌ غيرُ شَتويّ، يُخيفُه المطر ويُرعبه الثلج ويَشُلّ حركتَه اليوميةَ طقسٌ هائجٌ عاصفٌ، ويَطرحُ الصوتَ على الدوَل إذا شبَّ فيه حريق، ويُطلِق العويلَ على الأشقاء إذا وقَع في أزمة سياسية، ويترك الناسَ لِمصيرهم مكشوفي الرؤوسِ والبيوت إذا صدَرَ تصريحٌ سياسيٌّ لأحدهِم مُهوّلاً مهدِّداً بويلٍ أين منه انْحباسُ المطر خوفاً من الحرائق، وهطولُ المطر خوفاً من طوفان الطرقات.
إن دولةً يُربكُها هطولُ المطر والثلج، هي دولةٌ خسِعَةٌ بالكثيرين من سياسيّيها، يفضحُها ويفضحُهم بعد حينٍ تَوَقُّفُ المطَر وانحسارُ المياه عن حفافي الطرقات وعن حفافي أكاذيبهم وتهويلاتهم يُطلقونها سرعانَ ما تكشفُهم حين يذوب الثلجُ المعلَّق على حبل الكَذِب القصير.