هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

671: لِمَن الوسام؟

لِـمَـن الوسـام؟
السبت 13 تشرين الثاني 2010
– 671 –

بادرةُ رئيس الجمهورية بتوسيم سعيد عقل “ضابطاً أكبر” قد تكون أضافت الى الشاعر نقطةً من فرحٍ لوُجوده في قصر الرئاسة مُحاطاً بنخبة أصدقائه جالساً فيما رئيسُ البلاد يحيط عنقه بقِلادة الوسام. لكنّ هذه الفرحة تذهب أيضاً الى رصيد القصر وسيّد القصر الذي يومَها سَجَّل بادرةً خليقةً برؤساء الدول الكبرى الذين تبقى في تاريخ حُكْمهم علاماتٌ مضيئةٌ بينها توسيمُ المستحقّين من كبار البلاد.
طبيعةُ التوسيم (مِداليةً أو وساماً أو وشاحاً…) تعود تاريخياً الى كبيرٍ يُوَسِّم كبيراً أو أتى أثراً كبيراً. وبعدما كانت في فرنسا قصراً على العسكريين، أطاحتْها الثورة الفرنسية وجاء ناپوليون بوناپارت، في قانون 19 أيار 1802، يوسّعها أيضاً الى المدنيين من مستحقّيها على أعمالٍ أو نتاجٍ أو بادرةٍ أو شَجاعةٍ أو إنْجازٍ أو خدمةٍ عامّة أو إظهار تَفَوُّقٍ فريد في أحد الميادين المعرفيّة. وأول احتفال توسيمٍ جرى على يد بوناپارت نفسه في “الإنڤاليد” نهار 15/7/1804، تقديراً لمآثر ضباطه الكبار. ثم ذهبت الدُّرْجة الى المدنيّين المستحقّين.
يكون الوسام من نجمة ذات خمس زوايا مزدوجة (مذهّبة أو قرمزية) تربطها قِلادة قماشية حمراء حول العنق لاحتفال التوسيم، ومعها زرّ قماشيّ يضعه الموسَّم على الجهة اليسرى من صدر ستْرته حين يخرج الى مكان عام، فلا يلبس قلادة يوم التوسيم. ويعطى كذلك شهادةً تَذْكُر نوع الوسام ورتْبته وتبرير استحقاقه.
أما المِدالية (معدنية من ذهب أو فضّة أو برونز أو ميناء، دائرية غالباً وربما مستطيلة) فتُرخيها على الصدر قِلادة قماشية، أو تكون في علبة أو قاعدة لوضعها معروضةً (كما بدأتها مؤسسة نوبل). والكلمة لاتينية الأصل “مِداليا” تعني نصف دَنير (عملة رومانية). وانطلقت تُعطى لِمَن أتى عملاً أو موقفاً أو خدمةً طويلة في منصب أو مسؤولية، أو مشاركةً في حملة أو في عمل وطني أو مؤسساتي. قد تكون فردية أو جماعية. ومنذ انطلاقتها وهي تتنوّع بين عسكرية ومدنية ورياضية وتذكارية وأدبية ودينية وسياحية. وتختلف المداليات وفق البلدان فتتغيَّر بين بريطانية وروسية وأميركية وبلجيكية وكندية وإيطالية ويابانية وفرنسية ومدالية حرب أو محارب قديم،…
تبقى البادرة، وهي المعيار لِمانِحها ومستحِقِّها معاً. وبتجاوُز انحدارها الى مستويات دُنيا حين يمنحها أيٌّ كان الى أيٍّ كان لاعتباراتٍ عادية من دون معيار استحقاقي بل لِمجاملة أو سعي الى ما وراءها أو رفع عتب أو تكريم غير ذي قدْر (وما أكثر هذا النوع من التكريمات المجانية المتداوَلة التي باتت شبه يومية وفقدت كلّ قيمة)، يبقى التوسيم تكريماً لِمستوى المانح يقطفه هو قبل الممنوح.
يقطفُه؟ طبعاً. من كان ليَذْكر لويس الرابع عشر (أكثر من سائر الـ”لويسات” الثمانية عشر) لو لم يفتح قصر ڤرساي لِمُبدعي عصره موسيقيين ومسرحيين وشعراء وأندادهم ليخلّدوه هم اليوم فلا يمكن ذكرُهم من دون ذكره مكرِّماً إياهم بالإفساح لهم في عمل يقدمونه أو يطلبه منهم لمناسبة أو احتفال؟ ومن كان ليَذْكر الخديوي اسماعيل (أكثر من سائر الخديويين) لو لم يكلِّف جيوزيپي ڤيردي تأليف عملٍ للاحتفال بتدشين قناة السويس فوضع أوپرا “عايدة” التي لا يمكن ذكرها دون ذكر الخديوي اسماعيل؟ ومن كان ليَذْكر سيف الدولة الحمداني (أكثر من أمراء عصره) لو لم يكن بلاطه ملتقى شعراء ولايته وعلمائها؟ ومن كان ليَذْكر المأمون (أكثر من والده هارون الرشيد وأبي جعفر المنصور) لو لم يرفد “بيت الحكمة” بعشرات المترجمين والعلماء والنسَّاخ والفلكيين وعباقرة الرياضيات والعلوم من كل نوع؟
حكمة الحاكم أن يَسِمَ عهدَه بالمبدعين حتى يضمن لتاريخه أن يبقى على التاريخ. فلن يَذْكُر أحدٌ كم شارعاً شَقّ لويس الرابع عشر في پاريس، ولا كم قراراً مَلَكياً أصدر، ولا كم وزيراً عيّن أو غيَّر أو أقال، ولكنّ الجميع في العالم يُعَرّفون لويس الرابع عشر بـ”الملِك الشمس” لأنه فتح أنوار قصر ڤرساي لِمُبْدعي عصره فكرّمهم واستقبلهم وأتاح لهم عرض إبداعاتهم التي بقيَت، بفضله، علاماتٍ له ولَهُم.
بوسامٍ أو مِداليةٍ أو تكريمٍ استثنائيّ إبداعيٍّ من أيِّ نوع، يَبْلُغ الحاكمُ الحكيمُ قلوبَ شعبه وقلبَ التاريخ، حين يعي أنّ اهتمامَه بالثقافة والفنون في ولاية حكمه، هو الذي يُبْقيه في الذاكرة، أكثر من عشرات مراسيم يوقِّعها ثم تذهب الى رفوف المحفوظات.
العماد ميشال سليمان، رئيس جمهوريتنا، أظُنُّه كان يُدرك ذلك وهو يُحيط بـ”الضابط الأكبر” عنقَ سعيد عقل الذي قال يوماً:
“تُكَرِّمُهُ الدُّوَلُ الشِعر؟ دَعْكَ لَـيَبْقى غَداً… وتَدُولُ الدُّوَلْ”.