هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

938: الأسلوب هو الرجل

الحلقة 938: الأُسلوب هو الرجل
الأربعاء 8 أيلول 2010

عن الكاتب الفرنسي جورج لويس لوكلير ]المعروف بالكونت دو بُفُّون (Compte de Buffon)[ عبارتُه الشهيرة “الأسلوب هو الرجل”. ما يعني أنّ الكلمات تتعلّق غالباً بقائلها فتفقد مضمونها وتصبح طنيناً أجوفَ فارغاً، حين أُسلوبُ قائلها لا يوحي بالثقة، فيقع المضمون لا ضحية الكلمات نفسها بل ضحية قائلها.
والكلماتُ البليغة ليست بالضرورة تلك المعقّدةَ المستعصية، بل البسيطة الهادئة التي توصل مضمونها بدون جهد قائلها لأن مضمونها مباشَر وبسيط. بينما المستهلَك من الكلمات يفقد مضمونه لكثرة تكراره على ألْسِنَة من كرَّروه حتى أفرغوه من مضمونه ففَرِغوا هُم معه من مصداقية كلامهم الطنّان من دون مضمون.
أسوقُ هذا الموضوع بعدما باتت مُكَرَّرةً معلوكةً مُرَدَّدةً مُسْتَهلَكَةً باردةً قصديريةً مَمجوجةً كلماتٌ نسمعُها يومياً من سياسيين يلوكُونها في كلّ مناسبة، وأمام كل شاشة، ووراء كل مذياع، وعند كلّ وَضْع وموضِع وموضُوع، حتى باتت تثير اشمئزازَ الناس مِمّن يقولونَها ولا يَعُون أنها لم تَعُد تقْنِع أحداً من الناس.
المذهبية، الطائفية، الديمقراطية، الحوار، التفاهم، اللقاء، الإخوة، الصف الواحد، الوطنية، القومية، المصلحة الوطنية، الوحدة الوطنية، مصلحة هذا البلد، … وسواها وسواها من كلماتٍ فَرِغَتْ من معناها ومضمونها لكثرة ما فرغ قائلوها من مصداقيتهم.
كلماتُ تلاطُم، كلماتُ تَخاصُم، كلماتُ تَحاطُم، كلماتُ تشاتُم، كلماتُ تناغُم، كلماتُ تعاظُم، ولَعِبٌ على الألفاظ والكلمات والمعاني والكليشِيَات المتشابهة… حتى ينقلبَ اللعب على اللاعبين فيقعوا في الفضيحة.
بينما كلماتٌ أخرى بسيطة من الحياة اليومية، يعالجها كاتبٌ صادق، تؤدّي معه معانيها وتبلغ القلوب قبل العيون والأَسماع. ذلك أن الأديب أو الكاتب، حين يكتب أو يخطب، لا يرمي الى ذرّ الرماد في العيون، بل الى شَعّ الجمال في العيون، وجمالُه كلمات، وشَعُّها يشكِّل غالباً تُحفةً أدبيةً أو فنيةً أو فلسفيةً أو فكريةً عميقةً بكلماتٍ بسيطةٍ ناعمةٍ هادئةٍ مباشِرةٍ بدون تكلُّف ولا تكليف.
الأُسلوب هو الرجل؟ صحيح. وكم من أَساليبَ تطالعنا يومياً في تصاريح وبيانات ونشرات أخبار، بأصوات مُخَشَّبَةٍ مُكَلَّسة، فقَدَت أُسلوبَ الإقناع وأسلوبَ المخاطبة وأسلوبَ قائلها.
الأسلوبُ هو الرجل؟ نعم. وما أتعسَ أُسلوبَهُم وأقلَّ مصداقيَّتَهم، هؤلاء الذين أَفرغوا الكلمات من معانيها، فَسَقَطوا هُم قَبْلها في فراغ الكلام.