هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

664: موجات طليعية (3): لغة الموسيقى

موجات طليعية (3) : لغة الموسيقى
السبت 25 أيلول 2010
– 664 –

من عبقرية الموسيقى أنها لغة خارج اللغات، فوق اللغات، أبعد من اللغات، ومع ذلك يقرأُها أبناء جميع اللغات.
وإذا الرسم فنٌّ جميلٌ صامت تبتهج به العين، فالموسيقى فنٌّ جميل ناطق مُعطى للأذن كي تبتهج به وتنقله الى العقل الذوّاق. غير أن لنُطقه قواعدَ وأُصولاً، ولتصويته نُظُماً ومتعارَفات إذا خرج عنها خرج عن إبهاج الذوق الى طنينٍ يُهوّم بدون قرار.
فمن التجريد المطلق غير الملموس في نوتات يصوغها المؤلّف الموسيقي من تجريديّتها إلى تناسُق سمعي، تبلُغنا الموسيقى موجاتٍ موقَّعةً في تصاعُدٍ جماليّ يغمر القلب والروح في غبطةٍ نفسية تنقل المتلقّي إلى “الحالة الثانية” التي يَنشُدها كل فنٍّ لِمُتلقّيه.
ولكن… هل جميع الموجات “موقّعةٌ” في سياق الوقع الذي يخلق في التلقي لحظة الجمال؟ وهل كل وقع يؤدي الى الإيقاع؟
الموجات “الطليعية” الحديثة يتعمّد واضعوها الخروج من السياق وعن المألوف إلى تركيبات جديدة خارج النسَق. وهو ما يسميه البعض خطأً: الموسيقى الـ”آتونالية” (تونالية=ضمن اندراج النغمات وفق السلّم الموسيقيّ والنّسَق الميلودي، والـ”آتونالية”= خروج على هذا الاندراج).
ويباهي الـ”آتوناليون” بأنهم “خلقوا” موسيقاهم “الجديدة” أو “الحديثة” أو “المعاصرة” خارج كل سياق، ويغالي بعض رعنائهم بأن الموسيقى الكلاسيكية أو التونالية باتت “قديمة” و”خارج العصر”. ولكن… حتى أرنولد شونبرغ (1874-1951) – المؤلف الموسيقي النمسوي الأميركي الذي ترقى إليه تسمية الـ”آتونالية”-، حين تصدّى لرومنطيقية براهمز وڤاغنر “التعبيرية”، لم يخرج عن الهارمونيا في تطويره النبرات النغمية الإثنتي عشرة – وهي أثّرَت بليغاً في أجيال الموسيقيين معه وبعده وأحدثت جدلاً كبيراً-، ورفض تعبير “آتونال” مفضّلاً عليه تعبير “پانتونال” (= علاقة النبرات واحدتها بالأُخرى، مع استقلالية كل أوكتاڤ وحده إنما مع الحفاظ على المنطق والوحدة التأليفية).
من هذا التحديد نأخذ ختامه: “الحفاظ على المنطق والوحدة التأليفية” وهو ما خرج عنه موسيقيّو الموجات “الطليعية” الجديدة الى سياقات فوضوية سمّوها مرة “موسيقى إلكترونية” ومرة “موسيقى طليعية” ومرات “موسيقى اللاموسيقى” لِمجرّد أن يخرجوا عن النُظُم والقواعد والأُصول ليشتقّوا لهم مكاناً في عصر بات مريضاًَ بالخروج على المتعاقبات النسَقية في كل فن.
وهو هذا ما خلق الارتجاج في التلقّي الموسيقي والانهيار في الذوق الاقتبالي، حتى باتت أضلاع من المسماة “موسيقى عصرية” مادةَ تلوُّث صوتي في علب الليل والحانات والخمّارات، وانتقلت الى حفلات موسيقية وغنائية تُؤدي بجمهورها الى موجات هستيرية تيهانية هيمانية “نيرڤانية مشوّشة” لا علاقة لها بالموسيقى ولا بالتأليف الموسيقي ولا بالجماليا المرصود بثُّها على الموسيقى.
الموسيقي العبقري يرفع الناس إليه ولا ينْزل إلى أرض الناس لإرضائهم. وهو ما يجعل الموسيقى الكبيرة اليوم، تلك الرصينة والهارمونية العالية، ترفع الناس إليها دائماً، ويقصد الناس إليها ويسترسلون إليها، ولم تأبه مرة الى أن تنْزل عند رغباتهم.
هذا الصخب الموسيقي في كلّ العالم باسم “الموجات الطليعية” و”الريادية” و”العصرية”، سيبقى زبداً تلويثياً زائلاً يُرضي فئة عمْرية مُحدَّدة ينقصها عنصر الإبداعية فتغرق في البِدَع، تَحملها موجة يَمضي ذوقها زبَدياً ويذوب عند بلوغ الموجة رمل الشاطئ وحَصاه. فـ”الطليعية” ليست في الآلة التي تصوّت (إحدى وسائلها اليوم: الكومپيوتر) بل في العزف الذي يؤدّيه عازفه في جمال.
الموسيقى عطيّةُ الحياة الى الإنسان. وهي عطية تزيد على جمال الحياة جمالاً، وعلى رعشات الغبطة النفسية بهاءً، وعلى سعادة الإنسان في ساعاته الهانئة سعادةً ينقلها سمعه الشفيف الى قلبه وروحه ونفسيّته. وحين الموسيقى (تأليفاً بحتاً أو تلحيناً) لا تعود ينبوعَ جمال وسعادة وهناء، لا تعود بثاً بل تلوُّثاً، ولا تعدو كونها “موجات طليعية” عمرُها من عمرٍ موجة تعلو وتتبهرج لكنها راكضةٌ الى الشاطئ تتكسّر عنده وتنطفئ معها كلّ بَهرجة.