هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

663: موجات طليعية (2): لغة الرسم

موجات طليعية (2) : لغة الرسم
السبت 18 أيلول 2010
– 663 –

في المقال السابق (“أزرار”- “موجات طليعية:1- لغة الرقص”) ختمتُ أن “الفن الحديث إجمالاً يَخرج على النُّظُم الى مغامرة تستهوي الكثيرين مِمّن يهوَوْن أو يستسهلُون التفلُّت من كل قاعدة مسبقة أو انتظام مألوفٍ ليبنوا انتظامهم الخاص”.
ولعلّ الرسم من أكثر الفنون خروجاً على النُّظُم لبناء “نُظُمِه الخاصة” في فضاء اللوحة. من هنا تعَدُّد المدارس التشكيلية بين تعبيرية وتكعيبية وتَفَوُّقيّة، ولكل مدرسةٍ هوية خاصة: التعبيرية لا تُحاول إظهار الواقع كما هو بل التعبير عنه وفق ما يراه الرسام، كما ڤان غوخ نقلَ الوجوه والمناظر بنبضه لا بواقعها. والتكعيبية سعَت الى إبراز الأبعاد الثلاثة في اللوحة من دون أن يغيّر المشاهد مكانه، مثلما حاول سيزان تغيير الرؤية العادية الى أحجامٍ فخرج عن مفهوم الرؤية الكانت سائدة في النهضة الإيطالية وخربط المسطحات ليخلق رؤية افتراضية كما في لوحات الطبيعة الميتة لديه تنوّعٌ في المسطّح الواحد ضمن اللوحة الواحدة. ثم جاء الأوكراني كازيمير ماليڤيتش (1879-1935) بـ”التفوُّقية” مدرسةً طليعية روسية “تبلغ التجريد الكامل بالتحرُّر من كلّ تمثيل أو تشبيه أو نقل، بحثاً عن إحاسيس بصرية بحتة، لا دورَ للّون معها إلاّ في ذاته من دون أن تكون له علاقة بالشكل الذي يُلوّنه”.
لكن هذه المدارس التشكيلية، بين اتّباعية وطليعية، تُبقينا في التسآل نفسه: الرسّام أمام مَلْوَنِه، في يده ريشته، وأمامه القماشة البيضاء، هل هو أمام فضاء لامحدود؟ هل هو أمام مساحة محدودة سيُخصبها ألواناً وأشكالاً “تقول” للمشاهد؟ “تعني” للمشاهد؟ “تشرح” أو “لا تشرح” للمشاهد؟ تتواصل مع المشاهد ويتواصل معها، أم تبقى بعيدةً عنه وهي أمام عينيه؟
ما اللوحة؟ ما رسالتُها؟ أين حدود فضائها؟ كيف تخرج من قيد إطارها لتدخل قلب المشاهد قبل عينيه فتنقله الى فضاء واسع لامحدود؟ هل هي رقشات ألوان في مربعات أو دوائر أو مستطيلات أو أشكال جيومترية؟ هل هي أشكال تجريدية لا معنى لها في ذاتها و”ربما” تتّخذ معناها في محيطها الكامل؟ هل هي نقل الشجرة كما هي، والبيت كما هو، والمنظر كما هو؟ وهل كلّ رسام “حديث” و”طليعي” قادر أن “يكون” كلاسيكياً قبل أن ينطلق الى الطليعية متحرراً الى “حداثة” منفلتة من جميع النُّظُم والأُصول؟
هوذا ماليڤيتش نفسه، الداعي الى “التفلّت التام”، في لوحتَيه “رسم ذاتي” (1912 و 1933) كان كلاسيكياً بامتياز، فلم يشوِّه وجهه ولا ملامحه ولا تفاصيله، ولم يعمد، كبعض الكبار الذين “تفلّتوا”، الى إزاحة العين من مكانها والجبين من مكانه في محاولة لتشويه الوجه البشريّ. صبّ مشاعره في رسم وجهه ولم يفرض على المشاهد تغييرات بحجة “التفلُّت” و”الحداثة” والطليعية”.
التفَلُّت من النُّظُم بعد امتلاكها ليس خروجاً على النُّظُم بل ترسيخ لها في عملية تطوير ضرورية يحتاجها كلُّ فن، وكلُّ تيار في كلّ فن. أما أن يكون التفلُّت عن قصور أو عجز في تأدية الكلاسيكية ذات الأُصول والنُّظم والرقم الذهبي فهو عندئذٍ خروجٌ على الضوابط يوصل الى فوضى لا قرار لها ولا بقاء. من يستطيع أن يرسم وجهاً بكلاسيكية مطلقة، فليتفلّت بعده الى رسم الوجه كما يشعر أو يرى. أما أن تكون لوحته مُجرّد لونٍ للّون، أو شكلٍ للشكل، كي يخلق عند المشاهد “شعوراً خاصاً أو شخصياً أو ذاتياً”، فأمرٌ لا يعطى لكل رسامٍ أن يجيده. كل لوحة يجب أن “تقول” للمُشاهد، تجريديةً كانت أو طليعية أو كلاسيكية. أما ركوبُ الموجات الطليعية عن استسهالٍ في ضرب الرّقشات هنا وهناك على القماشة البيضاء بدون ضوابط وأُصول، فَتَفَلُّتٌ أهوج لا يُرضي المتلقّي ولا يوصل الرسّام الى أيّ رسالة.
أقدم الرسوم في العالم موجودة في مغارة شوڤيه (Chauvet) الفرنسية. تعود الى 32 ألف سنة، وتُشير الى أنّ أكثر الرسوم طليعيةً هي رسومُ ما قبل التاريخ حين راح إنسان المغاور والكهوف يصوّر ما نرى فيه اليوم رؤياه عبر رسومه الرؤيوية. وهي تصاويرُ إحيائية طقوسية تمجّد الطبيعة، رسمها عن حاجة الى التعبير أو الى التواصل. ومنذ تلك الأيام السحيقة وُلِد فن الرسم شكلاً من أشكال الفن الذي انتشر بعدها من عتمة المغاور الى شمس العالم.