هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

662: موجات طليعية (1): لغة الرقص

موجات طليعية (1): لغة الرقص
السبت 4 أيلول 2010
– 662 –

إذا الجسدُ لغةُ الرقص، فالكوريغرافيا قاموس هذه اللغة. وإذا الحركةُ وسيلةُ التعبير، فالانفعالُ مرآةُ هذه الوسيلة.
صحيح أنّ من لا ينفعل في ذاته لا يفعل في السوى، لكنّ الصحيح أيضاً أن الفعل لا يمكن أن يفعل إن لم يكن ابن الانفعال.
عن الأميركي ميرس كاننغهام (1919-2009) أحد أبرز أعلام الرقص والكوريغرافيا في القرن العشرين، أنّ “الرقص حركة لا انفعال”. وهي معادلة جدلية في الأسبقية بين الحركة والانفعال. مَن يولّد مَاذا؟ وكاننغهام الذي سحابة نصف قرن قاد “الموجة الطليعية في الرقص” وتخلّى عن مألوف الإيقاعات البصرية (الأجساد) والسمعية (الموسيقى)، دخل في مغامرة قالها “حديثة” مع مؤلفين موسيقيين من جيله، في طليعتهم جون كايج (1912-1992) رائد الموسيقى الإلكترونية اللانغمية الخارجة عن مألوف الميلوديا وقواعدها ونوتاتها التي قامت عليها روائع عباقرة الموسيقى الكلاسيكية في العالم.
حين أسّس كاننغهام فرقته الخاصة للرقص الحديث، كان طالعاً من تجربة الرقص في فرقة الأميركية الرائدة مارثا غراهام (1894-1991) سنواتٍ تمرس خلالها بالرقص الكلاسيكي والنيو-كلاسيكي، لكنه شاء أن يخرج عن السياق، فلجأ الى وسائط بصرية توسّلت الديكور والهندسة والموسيقى والأزياء عناصر باهرة لتجديد فن الرقص صوب “الحركة” أكثر مما صوب “الانفعال”.
وبتأثير قوي ومباشر من شريكه الموسيقي كايج الذي خرج هو الآخر عن السياق، راح الرقص في مفهوم كاننغهام (كمفهوم الموسيقى الإلكترونية لدى كايج) يخرج عن كلّ قاعدة وكلّ نظام وكلّ انتظام. وكما كسر كايج قوالب النغم والميلوديا في الموسيقى، رقص كاننغهام على تلك الموسيقى كاسرةِ القوالب فكسر بدوره قوالب الكوريغرافيا لتصبح الأجساد في تصميم رقصاته مجرد “حركات” يبدأ تصميمها من الكومپيوتر ويُحرّكها “روبوتياً” على الشاشة ثم يطبّقها على الأجساد التي تدوخُ في الحركة من دون أن يصدر عنها أيّ انفعال إيقاعي، تاركاً للمتلقّي أن يتفاعل (أو لا يتفاعل) مع هذا الخروج على القوالب.
مارثا غراهام، أستاذة كاننغهام، ذكرَت في يومياتها الخاصة أن “الرقص لغةٌ خفيةٌ للروح”، وأنّ “الراقص المبدع ليس في تقْنيّته بل في شغفه”، ورفضت عبارة “الرقص الحديث” (المتفلِّت من كل عُرف) وفضَّلت عليها عبارة “الرقص المعاصر” (الذي يأخذ من العصر لغة العصر المتجددة إنما غير الخارجة عن العُرف). لكنّ كاننغهام خرج من مدرسة مارثا غراهام ليؤسس (سنة 1953) “فرقة ميرس كاننغهام للرقص الحديث” ويخرج بها عن الأعراف، متوسطاً الحركة (الآلية، العفوية، اللاإيقاعية، الهائجة) ومفضّلاً إياها على الانفعال الذي يطلع من روح الراقص قبل أن يَـبْلغ جسده.
ومن سحابة الإيقاع الى غرابة التفلُّت من كل إيقاع، بنى كاننغهام مجده على تحطيم الطقوس وبناء “فوضوية حديثة” طالعة من التكنولوجيا الحديثة بإدخالها على الفن، ولو في “حركة” من دون روح (كتيار “الرسم الحديث” على شاشة الكومپيوتر الجامدة دون لمسة الريشة وغطِّها في الملْوَن وملامسة القماشة البيضاء في حنان المقاربة)، حتى إذا خرجَت “الحركة” روبوتيةً ورافقتْها موسيقى آتونالية (خارج النغمية)، زاغت الأجساد الراقصة على “حركةٍ” تولّد انفعالاً زائغاً هو الآخر، عكس اعتماد الانفعال في الرقص الطالع من إيقاع الروح الى إيقاع الجسد.
هذا الرقص “الحديث” (كما الموسيقى “الحديثة”، كما الرسم “الحديث”، كما النحت “الحديث”، كما الشعر “الحديث”)، يَخرج عن النُّظُم الى مغامرة تستهوي الكثيرين مِمّن يهوَوْن (أو يستسهلُون) التفلُّت من كل قاعدة مسبقة أو انتظام مألوف، كي يعبّر الجسد في الرقص عن تفلُّتٍ من كل قيد ونظام وسياق وإيقاع. يصبح عكس الإيقاع. ضدّ الإيقاع. خارج الإيقاع. يصبح في المفهوم “الفوضوي” الذي يرفض ليرفض، ويكسر ليكسر، ويبني أعرافه الخاصة بخروجه عن كل عُرف.