هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

919: ذاكرةُ العالم في الفضاء

الحلقة 919: ذاكرةُ العالم في الفضاء
الأحد 4 تموز 2010

في زمَنٍ غيرِ بعيدٍ، كان تمرينُ الذاكرة في المدرسة يركّز على استظهارِ الشعر، أو حفظِ جدول الضرب، أو اعتمادِ أية دُربةٍ أخرى تُمرِّن ذاكرة التلميذ على الحفظ، وعلى إبقاء ذاكرته جاهزةً نابضة. وفي مرحلةٍ متقدمة كان الطالب يتردَّد على المكتبة العامة يبحث في صفحات الكتب والموسُوعات عن معلومةٍ أو مصدرٍ أو مرجعٍ أو صورةٍ أو وثيقةٍ يَحتاجها لِـبَحثه أو موضوعه.
اليوم، مع هذا الفضاء السيبرنيتي المسمّى “الإنترنت”، باتت الذاكرة كلُّها متوفرةً بالإنترنت على شاشة الكومپيوتر: يكفي الباحث أن يطلب أيَّ موضوع أو صورة أو معلومة أو وثيقة، حتى يَجدَها أمامه في تفاصيلها وظروفها ومراجعها كافة.
أصبحت شبكة الإنترنت ذاكرةَ الناس وذاكرةَ العالم. ما ينساه الناس أحياناً يجدونه مَحفوظاً في ذاكرة الإنترنت، صوَراً ومناسباتٍ ومواضيعَ وتواريخَ ومعلوماتٍ ومَخطوطاتٍ ووثائقَ لا تضيع ولا تعتق ولا يتآكلها الزمن (كما كان يفعل في أوراق الكتب الصفراء والمراجع القديمة والصحف العتيقة) بل باتت تَحضر فوراً بكل نضارتها على الشاشة فتستعيدها الذاكرة في ثوانٍ معدودات.
هكذا أصبحت شبكة الإنترنت ذاكرةً دائمة الحضور والتوهُّج، جاهزةً تتماوج في هذا الفضاء السيبرنيتي الوسيع الذي معه لم يعُد الجهل مسموحاً ولا عاد النسيان مقبولاً، ولا عذر بعد اليوم لمن لا يظلُّ على تواصلٍ مع ذاكرته، كلما احتاجها وجدَها ماثلةً على الشاشة، وهو جالسٌ في مكانه أمامها، من دون أيِّ جهد في تنقُّله الى هذه المكتبة أو تلك الموسوعة أو ذاك المركز أو ذلك المرجع.
هكذا فضاءُ الإنترنت يختزن الذاكرة الفردية والجماعية معاً، وباتت المدارس والجامعات تحيل إليه تلامذتها طالبةً إليهم الغوصَ على الشاشة، والعودةَ منها بمرجع الموقع الإلكتروني المأخوذ منه ما استقَوا من معلومات. وقد يعود المسؤولون الى المواقع نفسها كي يعرفوا ما استقاه الطلاّب من الإنترنت وما كتبوه من عندهم. وكذلك المؤسسات والشركات تغوص على الشاشة استقاءً لِمعلومةٍ لها، أو نشراً لِمعلومةٍ عنها، حتى باتت الشاشة ذاكرةً افتراضيةً لا تُخطئ ولا تَشيخ ولا تَخون، لا ثقوب فيها ولا فسحة نسيان.
ولكن… إذا كانت الكتبُ والمراجعُ ذاكرةَ الماضي، فهل شبكةُ الإنترنت ذاكرةُ الماضي أم المستقبل؟
أليست تحفظ لمعة الأمس وتبقيها التماعاتٍ لكل غدٍ آتٍ؟
بلى: هذه الذاكرةُ الافتراضية، بنتُ العصر المتوهجةُ (وإن ليست تلغي الذاكرة القديمة وضرورة الحفاظ عليها) تبقى ثورة العصر الذي ننعم فيه باستقاء المعرفة في الذّهابِ الى آخر الدنيا في سرعة البرق، والعودةِ منها في سرعة البرق، حاملين رعداً يتردّد طويلاً أمامنا، كما يزرع الرعدُ حضورَه الطويل من مُجرّد… لَمعة برق.