هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

651: الإقناع: مناورة السياسي أم بلاغة الأديب؟

أ ز ر ا ر
الإقناع: مناورة السياسي أم بلاغة الأديب؟
السبت 12 حزيران 2010
– 651 –

في “حوارات أفلاطون” أنّ سقراط سأل غورجياس الحكيم: “ما سرُّ قوة البلاغة”؟، فأجاب هذا الأخير: “سرُّها أنها تختزل فيها جميع القوى. رافقتُ مرةً شقيقي وأطباء زملاءه الى مريض لم يكن مُقْتنعاً بشُرب الدواء المرّ، فأقنعتُه ببلاغتي. إن بلاغة الخطيب أقوى من حجة الطبيب حتى في مجاله الطبي”. ويختم أفلاطون هذا الحوار: “البلاغة فن كبير لا يعطى للعامة”.
حديث البلاغة والفصاحة يقود الى قوة أخرى: الإقناع. فما كلّ متحدّث يُقْنع، وما كلّ أديب يبلغ البلاغة، إلاّ إذا راح يتأنق في بلاغته حتى تُبسُط سحرها على المتلقّي، سامعاً أو قارئاً، فتولّد لدى المتلقّي لحظة الجمال وحُب الأدب.
على المتكلّم أن يكون في كلامه مترابطَ الأفكار منطقيَّها، متماسكَ الشخصية مُتوازِنَها، صادق الإثبات على ما يقول، متطابق القول مع واقع الفعل. عندها يُقْنع متلقّيه وينال جانبه ويغنم مواقفه. وهذا لا يكون إلاّ حين يُثْبتُ المتحدّث أنه “يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول”، من دون أن يغيّر رأْيه أو موقفه تحت أيّ ضغط خارجي أو تَجنُّباً أيَّ رأي مغاير.
من السهل أن يُقْنع المتكلّم سامعيه إن كانت لديه “كاريزما” جاذبة لافتة إليه كي يستقطب السمع فالاقتناع، شرط ألاّ تسلك كاريزماهُ دربها الى المناورة الزائفة، لأن متلقّيه عندئذٍ يَقتنع (من دون أن يفكر لماذا اقتنع)، أو ينجذب الى صاحب الكاريزما (مناوراً كان أم مقْنِعاً حقاً). وهذا ينطبق تماماً على السياسيّ المناوِر الذي، عند بلوغه “كاريزما” معيّنة لدى جمهور متلقّيه، لا يعود متلقّوه يفكّرون بمصداقيته أو بزيف مناوراته، بل ينجذبون إليه، عميانياً، في كل ما يقول أياً كان منطق ما يقوله.
هو هذا الفارق بين رجل السياسة ورجل الأدب: الأول يحتاج الى شخصه المباشَر كي يُقْنع (وهنا قد تلعب لغة الجسد وتعابيره دوراً هاماً في الإقناع)، بينما الأديب لا يحتاج إلاّ الى كلماته (ولو مقروءةً من دون شخصه المباشَر)، وهوذا سرّ الكلمة التي، بفصاحتها البليغة، تحمل متلقّيها على التعلّق بصاحبها ولو هو غائب.
هنا الفارق الجوهري بين “الإقناع” و”المناورة”، بين السياسي والأديب: السياسي يحاول الإقناع في خُطَبِه وغالباً ما يبقى غير مقْنِعٍ حين ليس مترابط الأفكار منطقيّها، ولا متماسك الشخصية مُتوازنَها، ولا صادق الإثبات على ما يقول، ولا متطابق الكلام مع واقع الفعل، بينما الأديب يتمكّن من الإقناع ببلاغته ولو في مناورة أدبية سائغة يستخدم لها كلماته ببراعة إبداعية، فيستقطب قرّاءه، أو الخطيبَ سامعيه، بفصاحة عالية تجذب إليها المتلقّين.
وحين مناورةُ السياسي تفضحه إن لم يكن مقْنعاً، تأتي مناورة الأديب مقْنِعةً بعذوبة ما تخلقه لدى المتلقّي من خيال خلاَّق في رحاب جماليا أدبية طالعة من استعارات وتشبيهات ومُحسّنات أُسلوبية بارعة هي التي تُميّز أديباً عن أديب، وخطيباً عن خطيب، وشاعراً عن شاعر.
فن البلاغة ليس مُعطى للكثيرينز إنه فن براعة استخدام الكلمات/الحجج التي “تُقْنِع” المتلقي. فما كل كلمة “تُقْنِع” إن لم تكن غنيةً بالترابط والمصداقية والتماسك والمطابقة، وإلاّ جاءت مفْرَغةً من مضمونها، يفضحها التردُّد في الكلام، أو في استخدام الكلمات، أو في صفاء الإجابة، كما تفضحُها (منبرياً عند الخطابة) لغة الجسد وتعابير الوجه واليدين.
بين الاقناع والمناورة: ما بين الوجه والقناع، ما بين الكف والقفّاز. في لحظة الحقيقة يسقط القناع ويقع القفاز، فإذا كان المتكلم صادقاً بقي وجهُه ثابتاً، وإلاّ انفضح، لأن الحقيقةَ المقْنِعةَ واحدة، والدّجْلَ المناوِرَ متعدّد.
هنا الفارق بين خطاب سياسي مناوِر يتصنّع الإقناع، وخُطْبة أدبيةٍ فصيحةٍ رأسُ سحرها بلاغةُ الكلمة.
وهنا الفارق في الكلام بين قِناعٍ غير مُقْنِع لأنه قد يَسقط، ووجهٍ حقيقيٍّ مُقْنِع لأنه ثابتٌ لا يتغيّر.