هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

650: كتبوها على أمواج غزة

كتبوها على أمواج غزة
السبت 5 حزيران 2010
– 650 –
أرى الحصار الضاغط على غزّة وأهاليها الذين صُبْحُهم البعيدُ فجرُ الحرية، وأذكر أمين الريحاني: “متى تُحوِّلين وجهَكِ صوب الشرق أيتها الحرية؟ متى تصيرين مثل القمر تُوقدين مصباحكِ لا في الغرب فقط بل في الشرق وفي العالم بأَسره؟ متى يمتزج نوركِ بنور البدر فيدور معه ويضيء ظلمات كلّ شعب مظلوم؟ متى تدورين مع البدر حول الأرض لتُنيري ظلمات الشعوب المقيَّدة والأمم المستعبَدة؟ (…) وأنتِ أيتها البواخر الْمُقِلّة ]من نيويورك[ منسوجات وقطناً وقمحاً، خذي معكِ دفقاتٍ من هذه الأمواج التي تغسل قدمي تمثال الحرية. إحملي معكِ زجاجة صغيرة من هذا الماء المقدس، رُشّي منها على سواحل مصر وسوريا وفلسطين”.
وأَرى الخوف والضياع في عيون أطفال غزة، وأذكر پول إيلُوار: “على دفاتري المدرسية، على طاولتي، على الشجر، على رمل الثلج، أكتب اسمكِ ]أيتها الحرية[. على الصفحات المقروءة، على الصفحات البيضاء، على حجارة الدم، أكتب اسمكِ. وأكتبُهُ في الغابة وفي الصحراء، على عيدان الأعشاش وعلى ورق الوزال، وعلى أصداء طفولتي. على صفحات الحقول، على أسطر الأفق، على أجنحة العصافير، على طاحونة الظلال، أكتب اسمكِ”.
وأرى الهجوم المجرم على “أسطول الحرية”، وأذكُر جبران: “أَشفقي علينا أيتها الحرية وخلّصينا. من نيرٍ ثقيل الى نير ثقيل تذهب أعناقُنا، وأُممُ الأرض تنظر ضاحكةً من بعيدٍ، فإلامَ نصبر على ضحك الأمم؟ من مَخالب نبوخذنصَّر الى أظافر الإسكندر الى أنياب الشيطان، فإلى يد من نحن ذاهبون؟ ومتى نبلغ قبضة الموت فنرتاح من سكينة العدم؟ أصغي أيتها الحرية واسمعينا. التفتي يا أُمَّ ساكني الأرض وانظرينا. بدّدي بعزمكِ هذه الغيوم السوداء وانزلي كالصاعقة واهدمي العروش المرفوعة على العظام والجماجم المغمورة بالدماء والدموع. إسمعينا أيتها الحرية، خلّصينا يا رفيقة موسى، أسعفينا يا حبيبة محمد، علّمينا يا عروس يسوع”.
وأُشيح بفكري عن الضمير العالمي المتفرّج وعن الصمت العالمي العاجز عن إيجاد الحل، وأعود الى جبران: “من أعماق هذه الأعماق نناديكِ أيتها الحرية فاسمعينا. من جوانب هذه الظلمة نرفعُ أكفّنا إليكِ فانظرينا. من منبع النيل الى مصب الفرات يتصاعد نحوكِ عويل النفوس متموجاً مع صراخ الهاوية. من أطراف الجزيرة الى جبهة لبنان تمتد إليكِ الأيدي مرتعشة بنزع الموت، ومن شاطئ الخليج الى أذيال الصحراء ترتفع نحوكِ الأعين مغمورة بذوبان الأفئدة… بين زوايا الأكواخ القائمة في ظلال الفقر والحرمان والهوان تقرع أمامك الصدور، وفي قراني المنازل المحجوبة بضباب الجور والاستبداد تحنّ إليكِ الأرواح، فانظري أيتها الحرية وارحمينا. ظلام الليل يخيم على أرواحنا فمتى يجيء الفجر؟ أَشفقي علينا أيتها الحرية وخلّصينا”.
وأفكّر بأن حق القوة مهما تمادى بطشه لن يغلب قوة الحق، وبأنّ الكلمة تبقى أفعل من قصف القذائف، وبأن فلسطين الكلمة أبلغ من كلمات يُطلقها منذ أكثر من نصف قرن حكّامُ دول “شقيقة” ليس في كلماتهم نسغ حقيقة، وأعود الى پول إيلوار: “على زجاج المفاجآت، على الشفاه الحنونة، وأعلى من الصمت، أكتب اسمكِ. على ملاجئي المهدَّمة، على منائري المندثرة، على جدران ضجري، أكتب اسمكِ. وأكتبُهُ على غياب الرغبة، على الوحدة العارية، على أملٍ بلا ذاكرة. بسُلْطة كلمةٍ واحدة أعيدُ حياتي، لأني وُلدتُ لأعرفكِ ولأسميكِ الحرية”.
هكذا اليوم، وكل يوم: حريةٌ قالها شعراء، وعلى صدى كلماتهم نفَّذَها بأجسادهم سُعاةُ خيرٍ كتبوها على أمواج غزة، من أجل أطفال غزّة وأهالي غزة وذاكرة غزة وحنين العودة الى غزة.
هذه النهدة الى الحرية تبقى أنقى وأصدق من جميع الأنظمة التي “تسعى وتُحاور”. وحركة السفن التي كانت تُقِلّ الحاجات الأولية الى أهالي غزة، تبقى الكلمة البليغة التي لا تتّسع لها حروف ولا تقتلها قذائف قراصنة البحر والبر والجو، لأنها مكتوبة على أمواج غزة، وشاطئ غزة له ذاكرة تَحفظ الكلمة الصادقة لأنها محفورة في ذاكرة الآتي، ومن هذه الذاكرة ستُشرق الحقيقة التاريخية.