هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

642: يوم تبيع الدولة ذاكرة المكان

يوم تبيع الدولة ذاكرة المكان
– 642 –

إذا كانت الذاكرة بين أغلى ما يسعى الإنسان الى الحفاظ عليه، فبعض هذه كامنٌ في الأبنية التراثية التي تقف، وحيدةً مرةً أو مسكونةً مرات، شاهدةً على فترة، على عصر، على أعلام، على معالم، وفي جميع الحالات على غالي الذكريات في مدينة أو مَعْلَم.
من هذه المساعي النبيلة: بادرةُ بلدية بيروت هذا الأُسبوع بإطلاق العمل في مشروع “بيت بيروت” (“المبنى الأصفر”- السوديكو، وهو كان “بيت بركات” وبدأ ترميمُه تحت شعار “ذاكرة لمدينة بيروت”) في حضور برتران دولانُوِيه عُمدة باريس الشريكة بلديّتُها في عملية الترميم.
وفيما يحضر العمدة دولانويه من فرنسا، تتواصل في بلاده لقاءات الجدل المحتدم بسبب عرْض الحكومة الفرنسية للبيع مبنى الرصد الجوي الذي اشترته حكومة الروسيا بثمانين مليون يورو لتقيم فيه كنيسة أُرثوذكسية وأكليريكية لتدريس اللاهوت. وبرَّر وزير المالية الفرنسيُّ هذا التدبير بأن عملياتٍ مُماثلةً (بيع أبنية تاريخية أو أثرية أو ذات ذاكرة فرنسية) “أدخلَت الى الخزينة ثلاثة مليارات يورو في ما سوى خمس سنوات، عدا كون الدولة عاجزة عن القيام بصيانة هذه الأبنية، أو انها لم تعد صالحة للنفع العام”.
وإذا كان المبنى المعنيّ يعود الى 1948، في قلب العاصمة (الدائرة السابعة)، فقصر المؤتمرات الدولية (جادة كليبر الشهيرة عند ساحة النجمة المحاذية الشانزيليزيه)، وبناؤه (ست طبقات جميلة) يرقى الى مطلع القرن العشرين، لاقى المصير نفسه يوم اشترته (في الأسبوع الأول من 2008) شركة قَطَرية بأربعمئة وستين مليون يورو لتحوّله الى فندق فخم (من 250 غرفة) وهو كان مقرّ منظمة الأونسكو قبل أن تشغله وزارة الخارجية من 1958 حتى اليوم.
وفي 25 حزيران 2007 صدرت صفحة كاملة في جريدة “لوموند” إعلاناً من الدولة عن عزمها بيع مبنى وزارة التعاون، وتم شراؤه بمئتي مليون يورو، ماحياً بصمة هذه الوزارة التي أنشأها الجنرال ديغول سنة 1959 وأسكنها في هذا المبنى الذي كان أصلاً فندق مونتسكيو وتحوَّل الى أرشيف غنيٍّ لِجميع الدراسات والتقارير ذات العلاقة بالإنماء والتطوُّر في هيكلية الدولة.
وكما كلّ مرة عند إتمام عملية بيع، تصدُر عن وزارة المالية تصاريح بأن هذه المبالغ تسهم في تَخفيف الدين العام الذي لأجله اعتمدت الحكومات الفرنسية المتعاقبة مبدأ الخصخصة ببيع بعض أسهم الدولة في القطاع الخاص لخدمة الدين العام.
ولكن… هل الذاكرة مُلْك الدولة أم مُلْك الوطن؟ الدولة مكوّنة من بضعة أفراد، لكنّ الوطن مكوّن من كل الشعب الذي، حين تخفّ ذاكرة المكان لديه، تضعف في لاوعيه أحاسيس انتماء تقوم في معظم كينونتها على ذاكرة المكان. فما قيمة مكان بلا ذاكرة، وما قيمة شخص بلا مكان؟
هل عجْزُ الدولة عن صيانة إرثها العقاري سببٌ كافٍ لبيع هذا الإرث؟ وهل تخفيف الدين العام يستوجب بيع الذاكرة الشعبية، ولو انّ هذه الأبنية باقية في مكانها أياً يكن الشاري: دولة أو شركة أجنبية أو أفراد؟ وهل عدم بيع هذه الأبنية/الذاكرة يؤدي الى إفلاس الدولة؟ وهل الاستراتيجية الوحيدة أو شبه الوحيدة، لتخفيف ديون الدولة، داخليّها والخارجي، هي في بيع معالِم بناها رؤساء أو ملوك كانوا شغوفين بالتطوُّر والثقافة والحضارة التي تتجسد أحياناً بالريازة المعمارية والطراز الهندسي البنائي؟
الأمر هنا (كما ظهر مؤخراً خلال ندوة حادة في راديو مونتي كارلو الدولي) بين رأيين: نوستالجيا عاطفية للحفاظ على المكان، ونظرة واقعية لتجنُّب خسارة المكان قيمتَه إذا نَهشَه الإهمال بعدم الصيانة.
وإذا لم يكن الآباء والأجداد يخزّنون مالاً نقدياً بل يشترُون به جواهر يوزِّعونها على أفراد العائلة أو يبيعونها عند الحاجة لمساعدة العائلة، فهل ينطبق ذلك على دولة تبيع مُجوهراتها العائلية لتخفيف دين عامٍّ ينعكس تخفيفُهُ إيجاباً على الشعب ككل؟
إنه الجدل حول ذاكرة المكان. وللمكان أحقِّيَّةٌ ثابتة قد لا يفقَهُها الزمان العابر.